كتب ياسر الزيات أربعة دواوين هي: «أحسد الموتى» (2008)، و«دمي ملوث بالحب» (2011)، «خوف الكائنات» (2018)، و«طفولتي الموجزة» (2019). نشر ديوانه الأول عام 2008 ثم الثاني عام 2011، ثم مرّت سنون عجاف أو كما كتب في ديوانه الجديد «خوف الكائنات» (منشورات المتوسّط)، معرّفاً عن نفسه بأنه «شاعر سابق». يعرّف نفسه بذلك فقط لأنه توقف عن كتابة الشعر تسع سنوات. لا ينتظر ياسر الزيات شيئاً من الشعر، لا شهرة ولا مالاً، وربما هذا منحه تفرداً عن الجميع، أن تلعب لعبة وأنت لا تنتظر مكسباً، إذاً أنت في عداد الخاسرين بالنسبة إلى الجميع. لكن ماذا لو لم تنتظر المكسب وفزت؟ اللعبة التي لا ينتظر منها ياسر الزيات فوزاً أو خسارة، لعبة الشعر، كأنه مثل لاعب كرة قدم من كثرة ما أتقن تمريرة ما، يراها عادية في الوقت التي تهتف بها الجماهير كلها.
(ستار نعمة)

انعزل الكاتب المصري عن العالم كي يكتب الشعر. كتب الشعر من غرفة عزل، نشر «أحسد الموتى» في منتصف الألفية، وهو مكتوب في منتصف التسعينيات. تسأله عن سبب عدم اهتمامه بتسويق ما يكتب. يضحك ولا يُجيب. ربما العملية في أنه يكتب الشعر بشكل غير واعٍ، أو أنّ القصيدة تأتي من تلقاء نفسها. «خوف الكائنات» هو استخدام اللغة في مواجهة الأشباح، أشباحه الخاصة، أشباح موت والده، موت أحبائه، قلقه من اللغة وقلقه على اللغة. لكن ماذا لو طوّع أحدهم الكائنات الخائفة في لعبة اللغة نفسها... في لعبة التناسي والنسيان؟
في «خوف الكائنات»، يقدم ياسر الزيات ما عرّفه بورخيس بالفعل الإستيتيقي في إحدى مقالاته. يرى بورخيس أنّ الفعل الإستيتيقي هو «وُشُوك تحقق وحي لا يتحقق أبداً». في الديوان، يجرّب ياسر أن يكتب النثر باستخدام مجاز كائنات خائفة أمام آلهة الموت والحب والعماء. يكتب في إحدى قصائد الديوان مثلاً تصوراً مرعباً عن صدمة ما بعد الموت: «يا أبي، يا أبي، كنتَ تظنني قمراً، وكنت أضحك، وأطير في السماء كما يليق بقمر صغير، انطفأت الليلة، فبكت الذئاب في الحقل، وتألمت الوديان من شخير الجبل. أنا جبلك يا أبي، جبلك لا قمرك، ولم أتحرك منذ أن تركتني على الطاولة وحيداً وذبت». لا يملك المرء أمام ديوان «خوف الكائنات» إلا أن يذوب تماماً. وليخدم هذا الفعل الإستيتيقي، استخدم الزيات الكائنات، الصياد، والبستاني، والشاعر الخائف من اندثار اللغة. نستخدم كلمة اندثار تحديداً لأن معناها يتلاءم مع خوف الزيات في ما كتب، معنى اندثار: «أن لم يبق لها أثر». وربما هذا لا يحدث مع الشعر الجيد، وربما يعلم الزيات هذا، لكن كما يقول فؤاد حدّاد: «مهنة الشاعر أِشد حساب».
ربما ما كتبه الزيات في «خوف الكائنات»، هو أكثر ما يتمناه الشعر من الشاعر، أو ما قد يفضّله متذوّق الشعر أثناء قراءة الشعر، وهو أن تخاف الشعر، تخاف اللغة. يمنحك الخوف بعداً آخر في كتابة الشعر تحديداً. يخاف ياسر أن يهجره الشعر، يكتب أنه شاعر سابق في قصيدة كاملة، ويكتب أن الشعر ركب قطاراً وسافر بلا وجهة، وربما هذا ما منحه شعراً متفرّداً، أو كائنات تخاف الحب، الموت، تخاف وقوفها أمام شاعر سابق. الشعر هو الوقوف على حافة العدم، وهذا ما يشعر به القارئ لشعر ياسر. يكتب مثلاً: «ركب الشعر قطاراً، وسافر بلا وجهة. تحدّث إليه الغرباء: المُراؤون منهم، والسفلة، وعشاق المغامرات. وعندما نظر من النافذة، رأى الخيال يجري ويختفي، كأنه أشباح تطارد أجسامها. وألهمه التكرار أن يفكر في نفسه كمسافر أبدي». وهنا يتضح ما نقصده من تملك الشعر من الشاعر: تظن أنه هرب منك في اللحظة التي تكتب فيها، الشعر شبح ينفلت من الشاعر، لكن الغريب هنا على الأقل أنه كتب جملة «ألهمه التكرار». ماذا يقصد بالتكرار؟ ليس في شعر الزيات أي تكرار بل حتى وهو يكتب القصيدة بشكلها الشائع (الشائع نسبة إلى قصيدة النثر التسعينية)، كان شعره مختلفاً. أربعة دواوين لا تتشابه مطلقاً في طريقة الكتابة. «خوف الكائنات» لا يشبه أي ديوان كتبه بنصوص قصيرة باستخدام معنى مختلف عن كل معانيه السابقة أو ما يشغله كما يقول ريلكه. في قصيدة أخرى من «خوف الكائنات»، كتب أقرب معنى تعريفي لشعره: «لا أحد يريد أن يبلّل اللغة، ولكن لا أحد يفكر كم هي عطشى، وكم تحن إلى رقصة جديدة تحت غيمة». لعل ذلك أقرب تعريف لشعره: غيمة جديدة يلعب تحتها الشعر والشاعر سوياً.
ربما كان الشعر عند الزيات هو الحادثة الداخلية التي يقصدها ريلكه


في كتاب ريلكه «رسائل إلى شاعر شاب» (ترجمة أحمد المديني)، يشرح الألماني لصديقه المفترض، عن علاقة الشاعر بالعالم، يقول ريلكه: «وسواء تعلق الأمر بذكرى تخص طفولتك أم بحاجة حرى لاكتمالك، ركز على ما يرتفع فيك، واجعله يتقدم على ما تلاحظه في الخارج. إن حوادثك الداخلية تستحق كل حبك. وبه عليك أن تحكِها دون أن تضيع وقتاً طويلاً ولا جهداً بالغاً في توضيح علاقاتك بالآخرين». في أربعة دواوين، لم يكن ياسر الزيات إلا نفسه: شاعر عزف عن كتابة الشعر ولجأ إلى الصحافة، محاولاً الهروب من الشعر. لكن ما حدث عكس ذلك، هزمه الشعر، وربما كان الشعر عند الزيات هو الحادثة الداخلية التي يقصدها ريلكه، وعليه أن يهتم بها ويحبها من دون أن يضيع وقته في كتابة غيرها.