على وقع الأحداث المؤلمة التي تدور في أوكرانيا، كثُرت القراءات والتكهّنات كما برزت المواقف السياسية التي أيّدت هذا الطرف أو ذاك. في السياسة، يمكن لأي دولة أو حزب أن يتّخذ ما يناسب علاقاته أو مصالحه أو ينسجم مع مبادئه، وهذا مفهوم، ولكن عندما تتورّط المؤسسات الثقافية في النزاعات والحروب لمناصرة هذا الفريق أو ذاك، فالمسألة تختلف ولا بد من التوقف عندها والتحذير من الخطأ ومن مخاطر الانغماس في مثل هذه الأحوال.الإثنين في 14 آذار (مارس) الماضي، استضاف «متحف سرسق» في بيروت حدثاً، قيل بأنه «ثقافي» احتفالاً بمئوية الشاعر الأوكراني Ahatanhel Krymsky (1871-1942) الذي كان قد أمضى سنتين من حياته في لبنان.

أضيء المتحف بألوان العلم الأوكراني، وراح السفير يخلط الثقافة بالسياسة بطريقة غير بريئة

استغلّ المنظمون الحدث «الثقافي» والمتحف الذي يحمل اسم نقولا إبراهيم سرسق وأطلقوا المواقف السياسية، ولم يقفوا عند ذلك الحد، بل استخدموا اسم عائلة سرسق بشكل يتناقض مع تاريخ هذه العائلة ووصية المرحوم نقولا سرسق.
فقد أُضيء المتحف بألوان العلم الأوكراني، كما أنّ سعادة سفير أوكرانيا ومن أرض «متحف سرسق» المُضاء بألوان علم أوكرانيا، أجرى مقابلةً بحضور سفراء الاتحاد الأوروبي ومجموعة الدول السبع، وقد ذكر خلالها اسم العائلة مع خلط الثقافة بالسياسة بطريقة غير بريئة.
شخصياً، لا أؤمن بأنّ الإرث الثقافي اللبناني يجوز استعماله في السياسة. واسم عائلتنا وتاريخها لم يُستعملا يوماً ولا يجوز اليوم أن يُستعملا في التسويق والدعاية السياسية.
إنّ نسيبي الأكبر نيقولا ابراهيم سرسق، كان قد تبرّع بقصره في مدينة بيروت سنة 1952، وقد طلب في وصيته أن يكون هذا المكان ملتقى ثقافياً مجانياً لجميع اللبنانيين وأصدقاء لبنان.
منذ ذلك التاريخ، تم تنظيم مئات المعارض والمناسبات الثقافية والفنية، وحافظ القائمون على إرث نقولا سرسق الثقافي، على وصيته من دون انحياز أو استغلال. وينبغي أن تبقى الأمانة محفوظة.
بعد انفجار مرفأ بيروت، أسهم المجتمع الدولي، مع اللبنانيين المقيمين والمغتربين، في إعادة ترميم جراحات المتحف إثر الانفجار. وعاد المتحف إلى رونقه واستعاد عافيته. ولا شك في أنّ المواقف السياسية لا تخدم الحياد الثقافي الذي ينبغي الحفاظ عليه.
الشاعر الشهير Ahatanhel Krymsky، الذي عاش قبل فترة طويلة من انهيار الاتحاد السوفياتي، خضع بدوره للاستثمار السياسي من دون رغبته على الأرجح. فقد قال: «ليس لديّ دم أوكراني، لقد وُلدت وترعرعت في أوكرانيا على الرغم من أنّني لست أوكرانياً، فأنا مؤيد تماماً لأوكرانيا»، فهو ينحدر من عائلة بولندية – ليتوانية، كان جدّه الملّا هو من غادر بلدة Bakhpchissaraï في شبه جزيرة القرم.
استغل المنظمون الحدث «الثقافي» واستخدموا اسم عائلة سرسق بشكل يتناقض مع وصية المرحوم نقولا سرسق


الحدث مؤسف ومستغرب، وكان يمكن أن يعتبر مستغرباً وبالقدر نفسه لو أنّ «متحف سرسق»، في أوقات الحرب هذه، والقتلى وملايين اللاجئين، المغمورة بالدراما الإنسانية، ودماء الخصمين، قام بتنظيم حدث بألوان العلم الروسي لشكر «الجمعية الإمبراطورية الأورثوذكسية الفلسطينية»، التي أنشأها القيصر الكسندر الثالث، والتي تحتفل بعيدها الـ140 في هذا العام والتي أنشأت وموّلت منذ عام 1880 أكثر من 15 مدرسة ومستوصف في المناطق الفقيرة في لبنان.
إنّ عائلة سرسق تتمسك بقوة بالاستقلال الثقافي، تجاه الشؤون السياسية كما الدينية، وكما أعلم، فقد كان ذلك موقفها ومسارها على الدوام.