لا يختلف اثنان على أنّ يسري نصر الله (1952) أحد أهمّ السينمائيّين المصريين. صاحب أعمال أثارت الكثير من الجدل، مسلّطةً الضوء على قضايا سياسية واجتماعية، كما فضحت وعرّت طبقات بعينها. طوال مشواره في صناعة الفن السابع، كان الإنسان شغله الشاغل، من «مرسيدس» و«سرقات صيفية»، مروراً بـ «باب الشمس» و«صبيان وبنات» و«جنينة الأسماك»، وصولاً إلى «بعد الموقعة» و«الماء والخضرة والوجه الحسن».هو ابن العائلة الأرستقراطيّة الذي شقّ لنفسه طريقاً مختلفاً في الفن والسياسة، من دون أن تغيب فلسطين عن هواجسه. أدرك أنّه باستطاعته إخراج أفلام بعدما شاهد «إسكندرية ليه» ليوسف شاهين الذي تكلّم «عن الـ «أنا» بطريقة مدهشة». الجميع يعرف أنّ يسري نصر الله لا يوقّع أشرطة لا تتوافق مع قناعته أو استجابةً لمعايير الجهات المنتجة أو شبّاك التذاكر، مستفيداً في ذلك من شركة «أفلام مصر العالمية» التي أسّسها يوسف شاهين ومن الإنتاج المصري ــــ الفرنسي المشترك.
بعد مسيرة حافلة واستثنائية على الشاشة الكبيرة، ها هو المخرج الذي عمل ناقداً سينمائياً في جريدة «السفير» اللبنانية بين عامَيْ 1978 و1982، يخوض أولى تجاربه الدرامية التلفزيونية، وتحديداً من بوّابة منصّات البثّ التدفّقي.
كان يُفترض أن يُكشف الستار عن «منوّرة بأهلها» في بداية شباط (فبراير) الماضي، إلا أنّ تطبيق «شاهد» المنضوي تحت مظلّة شبكة mbc السعودية جمّد العملية قبل ساعات من الموعد المحدّد. جاء ذلك بعدما ساند أحد أبطال العمل، الممثل المصري باسم سمرة، مواطنه محمد صبحي في خلافه مع رئيس «هيئة الترفيه العامّة» تركي آل الشيخ الذي أعلن رفضه عرض مسرحيّته في الرياض... ليعود ويبصر المسلسل المؤلّف من عشر حلقات النور في السادس من آذار (مارس) الحالي.
كلّ شيء في تركيبة «منوّرة بأهلها» يدعو للمشاهدة. إنّه المسلسل الأوّل في رصيد يسري نصر الله الغني، كما أنّه يحمل توقيع محمد أمين راضي، أحد أكثر السيناريست المصريين تميّزاً. كذلك، يضمّ المسلسل الذي يندرج ضمن أعمال «شاهد» الأصلية باقة من الممثلين المعروفين والمتمكّنين: ليلى علوي، غادة عادل، باسم سمرة، أحمد السعدني، محمد حاتم، ناهد السباعي، سلوى خطاب، عبّاس أبو الحسن، عمر رزيق، بلال التونسي وغيرهم. أما الأحداث، فتبدأ باكتشاف جثّة شاب مجهول الهوية مقتولاً في إحدى الشقق، ليبدأ وكيل النائب العام «آدم» التحقيق في ملابسات الجريمة التي سرعان ما تكشف عن أحداث مريبة وغامضة يمتزج فيها الواقع بالخيال.
هناك بين النقّاد والمهتمين بالشأن الدرامي مَن يجمعون على تميّز أعمال راضي ببناء متكرّر وجلي. تبدأ أحداثه عادةً من موقع متقدّم بجريمة أو كارثة ما (مثل موت «تحية» في «أفراح القبة»، أو اختفاء جثة «سيد نفيسة» في «السبع وصايا») وسط جرعات كبيرة من الغموض وشخصيات كثيرة متصلة بما يجري. بعدها، يلجأ راضي إلى الـ «فلاش باك» للعودة إلى الماضي وكشف الأسرار، ناهيك باعتماده على السرد من وجهات نظر منوّعة للحدث نفسه. إذ لكلّ شخصية قراءتها الخاصة لما يجري. وعلى خطٍ موازٍ، غالباً ما تدور النهايات (المفتوحة في معظم الأحيان) في فلك الماورائيات أو الأحداث الخارقة للطبيعة أو الخيالية، مشرّعةً الأبواب على وابل من الأسئلة أو التكهّنات.
يتميّز «منوّرة بأهلها» ببناء درامي جذّاب ومختلف، وإن كان شديد الأمانة لأسلوب محمد أمين راضي المعتاد الذي ملّه بعضهم. تتشابك التفاصيل مع بعضها فيما تتقاطع بصورة معقّدة وفق محور زمني ممتدّ تتعاقب ضمنه الأحداث بدءاً من سنة 1994 وحتى سنة 2010.
عالم مليء بـ «الحواديت» الخيالية المستوحاة من قصص الجدّات، لكنّها مختلفة عن الفولكلور. فهو مزيج من المألوف وغير المألوف وفق خلطة من الخيال والواقع والأحلام في موازاة الشخصيات الحقيقية والخصبة التي نراها واقفةً على أرضيات ثابتة. وفي إطار وصف «الورق» الذي قرأه وشدّه للموافقة على الانضمام إلى المشروع، قال يسري نصر الله في تصريحات إعلامية إنّه «ذو وجهيْن: ظاهر وباطن... فالحكاية بظاهرها تتمحور حول جريمة قتل وتحقيق جنائي لكشف القاتل والدوافع، أما باطن الحكاية فهو عالم كامل تُفتح أبوابه من خلال صُور ممزّقة يتركها المقتول للمحقق لتعينه على كشف القاتل. ومن هنا يَستمد الموسم الأوّل من العمل اسمه (قصاقيص صور)».
قد يظنّ المرء أنّه بما أنّ المسلسل قصير، فهذا يفرض إيقاعاً سريعاً للأحداث بعيداً عن الإطالة. غير أنّ الأمر لا ينطبق على هذا العمل! فقد انتهى العرض من دون الكشف عن المجرم الثاني وفكّ جميع ألغاز وخيوط ما حصل، ليقع المشاهد ضحية المزيد من الإبهام (علماً بأنّ الغموض أحاط حتى النهاية بشراب السيكومونوس الشهير أيضاً)!
يتميّز المسلسل ببناء درامي جذّاب ومختلف، وإن كان شديد الأمانة لأسلوب محمد أمين راضي


أُسدل الستار على «منوّرة بأهلها» عن طريق ما يشبه المتاهة، قد يضع الجزء الثاني المنتظر حدّاً لها. هنا، يبدو لافتاً أنّ يسري نصر الله وضع ثقله في الجانب البصري حصراً، وهو الذي اعتاد المشاركة في كتابة معظم أعماله. سخّر الفنان المولود في القاهرة كلّ إمكاناته الإخراجية لخدمة النصّ، بما فيها اختيار الإضاءة والديكورات والكادرات وإدارة الممثّلين الذين طغى على حواراتهم الاستعراض المقصود. فما كان من يسري إلا أن ركّز على تحدّث الشخصيات بطريقة آلية خدمةً للتطوّرات المقبلة. أسلوب إخراجي سينمائي بامتياز، لا يمكن إلّا أن يكون ممتعاً.
ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ المسلسل ككلّ يحمل إحالات إلى أعمال نصر الله السابقة، التي تمكّن عدد من روّاد مواقع التواصل الاجتماعي رصدها. ففي الحلقة الأولى مثلاً، يقرأ نائب وكيل النيابة «آدم» رواية «رحلة غاندي الصغير» للبناني الياس خوري الذي سبق أن حوّل يسري ملحمته «باب الشمس» إلى فيلم في عام 2004. وحين يشرح المصوّر «مُهاب» لعارضة الأزياء عن إعلان القرية السياحية، يأتي على ذكر الماء والخضرة، قبل أن تكمل الفتاة جملته قائلةً: «والوجه الحسن!». وهو اسم الشريط الذي أطلقه نصر الله عام 2016. وهل لاحظتم أنّ اسم المسلسل يعيد إلى أذهان الفيلم الشهير «القاهرة منوّرة بأهلها» (1991) الذي اشتغل فيه يسري نصر الله مساعداً ليوسف شاهين؟

* «منوّرة بأهلها» على «شاهد»