بغداد | استثمار الأغنيات في الأحداث الحالية، سواء من قبل الفضائيات الداعمة للقوات الأمنية العراقيّة، أو من قبل فضائيات تسمّي ما يجري بـ «الثورة»، هو سمة من سمات المواجهة الجارية الآن. لكلّ وسيلة إعلامية نهجها الذي يتّضح في اختياراتها للأغنيات. مثلاً، تصرّ قناة «العراقيّة» على تقديم أغنيات قاسم السلطان، وهو من المطربين المعروفين بتقلّباته.
نتذكر أغنيته «فوت بيها وعلى الزلم خليها» (امض واتركها على عاتق الرجال)، يوم أهداها لصدّام حسين قبل الاجتياح الأميركي، إلى أغنيته المشتركة مع محمد عبدالجبار «يعرف روحه»، قبل أربعة أعوام التي خصّ بها رئيس الوزراء نوري المالكي. وفي الهجمة الإرهابيّة التي يواجهها العراق، أطلّ علينا السلطان على شاشة «العراقيّة» بأغنية «صكاره» (بمعنى من يُسكت الخصم ويُخرسه)، وهي أغنية تشجيعية للجيش العراقي.
ويبدو أنّ العسكرة والتجييش يلازمان العراق، مع هذا الكم من الأغنيات التي تمثّل تراجعاً في مستوى الأغنية العراقية وتاريخها. وهو في النتيجة، كلام مؤجّل مع المواجهة الحاسمة ضدّ «داعش» وخطره على البلاد. لكن يحقّ لنا أن نتساءل: هل فعلاً «طكت وإلما طكت احنه الموجودين» لصلاح البحر (انفجرت أو لم تنفجر)، و«ما معلومه يا ساعة تطك» لحسام الماجد (غير معلوم متى تنفجر)، و«احنه أهل الغيرة الأصلية ولد الملحة والغربية» لجلال الزين، أغنيات يمكن أن نواجه بها الإرهاب بقوّة ووعي؟
الفضيحة الكبرى هي مع فضائيات حاولت خلط الأوراق، ولم تفصل بين الإرهاب وحقوق فئة من العراقيّين، وقدّمت التطوّرات الراهنة على أنّها ثورة.

بثّ أهازيج داعمة
لصدام اشتهرت في
حرب الخليج الأولى
لكن كان مستفزّاً جدّاً أنّها استعانت بأغانيات من حقبة النظام السابق، بهدف استمالة جمهور من العراقيّين، وبثّ رسائل عدة منها أنّ «الثوار» ــ بحسب وصفها ـ من تنظيمات «البعث» وخلاياه المتحالفة اليوم مع «داعش»، يعيدون أمجاد الماضي. جميع الأغنيات المختارة هي من ذاكرة الحرب العراقية ـ الإيرانية في الثمانينيات منها «احنه مشينا للحرب»، و«لا لا والله والعباس هاي الكاع ما تنداس» (الأرض لن تداس). المتابعون يعرفون أي مسعى تريده مثلاً فضائية «الرافدين» الناطقة بلسان هيئة علماء المسلمين، حين تبثّ أغنيات من زمن «البعث». لربّما تصوّر الأمر على أنّه تحرير للبلاد من دنس «الصفويّين» من أبناء العراق، بالضبط مثلما يحبّ المتطرّفون تسميتهم.
قناة «العراق الآن» مزجت بين الأغنيات من الاتجاهات كلّها. أغنيات المطربين الشباب التي تمجّد بغيرة العراقي وبحضارته، وأغاني «البعث» أيضاً، وهي تستعرض أخباراً وتعليقات يسخر أغلبها من ساسة العراق، وتؤكّد آخرى قرب «تحرير بغداد» من لدن مَن تسمّيهم بـ«الثوار».
على الجانب الآخر، التزمت فضائيات كثيرة مثل «البغدادية» و«الرشيد» تقديم أغنيات تذكّر بوحدة العراق أرضاً وشعباً، وتحفّز الروح الوطنيّة، منها «حبيبي يا عراق» لماجد المهندس، و«هذا العراق يظل شمس ما يطفى نوره» لنصرت البدر وتيسير السفير.
إزاء ما تابعناه، هل يعقل أن يكون العراقي بين نار الاستماع لـ«هوسات» مطربين شباب من أغنيات سريعة لا تنتمي إلى تاريخ الأغنية العراقيّة الملتزمة، أو الإصغاء لهتافات من زمن انتهى، كأنّ تقديم أغنيات حرب الثمانينيات، يضعنا أمام ملامح جديدة قاسية في بلاد الرافدين!