يعكس معرض «أوج الفن السوري» الطبعات والممارسات الراهنة لما يعيشه المحترف السوري الذي تشتت عدد كبير من فنانيه في بلدان اللجوء، ومنها لبنان، حيث بدأت أعمالهم تأخذ مساحة واضحة في برمجة الغاليريات البيروتية. المعرض الذي تحتضنه «غاليري أيام» بالتزامن مع فرعها في دبي، يضم أعمالاً لخمسة فنانين هم: نهاد الترك، مهند عرابي، عبد الكريم مجدل البيك، عثمان موسى، وقيس سلمان هم أصلاً منتمون إلى فريق الغاليري، وقد سبق أن قدمتهم في معارض فردية في دمشق وبيروت ودبي.
هكذا، يبدو المعرض تنويعاً مشتركاً لفكرة واحدة تتغذى على ما يحدث في سوريا وعلى مشهديات الموت والدمار والدم. لا يرسم الفنانون المشاركون تقارير تشكيلية مباشرة للحدث طبعاً. هناك مسافة للرؤية وزاوية مواربة للنظر إلى جزئيات وموضوعات يمكن تحويلها إلى رموز واستعارات وتأويلات بصرية ولونية قادرة على وصل انطباعات الواقع المتفجر مع انطباعات اللوحة التي نظرت إلى هذا الواقع أو قرأت أخباره ورأت صوره، وقادرة أيضاً أن تكون وسيطاً خلاقاً بين طرفي هذه الانطباعات.
لا تختزل التراجيديا السورية موضوعات اللوحات المعروضة بالكامل. هناك إيحاءات واضحة في أعمال عثمان موسى الذي قام بـ «تفخيخ» مواد وعناصر بسيطة من الحياة اليومية، وحولها إلى مواد ناسفة ومتفجرة، فألصق في لوحتين بلا عنوان أصابع ديناميت حقيقية ببطيخة، وبيبرونة حليب. وفي ثلاث لوحات من سلسلة «مجموعة إرهابية»، ربط أربع حبات كوسا وحبة باذنجان بأسلاك موصولة ببعضها كأنها عبوة معدّة للتفجير. وفعل ذلك بربط خمس حبات خبز إفرنجي (الصمّون)، بينما نرى في الثالثة تفاحة يصعد منها سلك هو بمثابة صاعق قنبلة أو لغم. تحويل تفاصيل معيوشة مثل هذه إلى شيفرات تنمّط ما يحدث، هو جزء من فن يتأمل ما تفعله الحرب بالحياة السورية من زاوية منحرفة عن السياق العمومي، وهو ما رأيناه في تجارب سابقة وضع أصحابها طلقات رصاص في مرطبانات السكر والرز والشاي المصفوفة في رفوف المطابخ. هذه المباشرة الفجّة والمؤثرة تتوارى وتتضاءل في أعمال المشاركين الآخرين، إذْ يعرض مهند عرابي تلك الوجوه ذات العيون الواسعة والمغرورقة التي تقول الكثير عن دواخل وأمزاجة أصحابها الأطفال الذين يظهرون كملائكة على خلفية مدينة قبل دمارها، أو يحمل أحدهم بندقية بلاستيكية لم يعد لها مكان في حرب البنادق الحقيقية. الجروح والآلام كلها موجودة في العيون التي حولّها الفنان إلى تعويذة فنية وأسلوب شخصي.
في أعمال مجدل بيك وقيس سلمان نهاد الترك، لا نجد تغييراً دراماتيكياً أو انخراطاً واضحاً في الواقع السوري الراهن. لا يزال الأول يرسم الخدوش والكتابات والأشكال التي صنعها الزمن وتراكمات العيش على الجدران التي تبدو مثل مساحات تجريدية كانت مخترقة بسكاكين وبقع محروقة في لوحاته السابقة، لكنها تغيب في الأعمال المعروضة حالياً. القسوة التجريدية العالية النبرة هي تأويل أيضاً لمناخ الحرب والدمار، ولو كان ذلك موجوداً فقط في فكرة أنّ تلك الجدران مهددة بالدمار، أو ربما تكون هي ومثيلاتها قد دُمرت فعلاً.
تأويلاتٌ مثل هذه تتضاءل وتختفي أكثر في أعمال نهاد الترك الذي يواصل الاشتغال على لوحة منجزة بإنشاءات شكلانية تحضر فيها طيور وكائنات مجموعها سبعة عادةً، والرقم نفسه صار جزءاً مواكباً لهذه التجربة التي تنمو وتنضج من دون أن تتأثر مباشرةً بما يحدث. الأمر نفسه موجود في لوحات قيس سلمان التي تبدو كأنها بقايا من آخر معرض له في الغاليري نفسها، إذْ نرى التشخصيات البشرية المُقبَّحة والممسوخة التي كانت بطلة للميديا ومفاهيم الحياة المعاصرة، لكنها تجد تعديلاتٍ خفيفة مثل أن يحمل رجل ملتحٍ كأس العالم في لوحة «كأس العالم»، وأن نرى رجلاً مماثلاً مع حطّة بيضاء نازلة من رأسه على كتفيه في لوحة «البابا الإسلامي». وهذه أيضاً تأويلات تُبعد الفنان عن الواجهة المباشرة لما يجري، ولكنها تسمح له أن يظل على اتصال قوي معه في التقاط الخلاصات التي تنبعث من الحدث.
نذكر أخيراً أن افتتاح المعرض شهد حواراً حول الفن والصراع الدائر مع الفنانين الذي قدمهم صاحب الغاليري خالد سماوي، وبمشاركة الناقدة ميمنة فرحات التي كتبت بحثاً مهماً في الفن السوري عموماً، وفي التجارب الراهنة خصوصاً، نُشر كمقدمة لكتالوغ ضم الأعمال المعروضة، إلى جانب أعمال أخرى من الفترة ذاتها للفنانين الخمسة.

«أوج الفن السوري»: حتى 2 آب (اغسطس) المقبل ـ «غاليري أيام»، (وسط بيروت). للاستعلام: 70/535301




واقعيّة

ليس مستغرباً انخراط الفنانين السوريين في الصراع الدموي الذي دخل عامه الرابع، وليس مستغرباً أن تتدخل كوابيس الحرب والموت في صياغة جزء من ممارساتهم وخياراتهم وطموحاتهم. لقد كان المحترف السوري ملتصقاً دوماً بالواقع، وإن تعددت تياراته وتجاربه، وهو ما يفسّر ضعف المجازفات التجريبية فيه، وضآلة حضور الفنون المعاصرة حتى لدى الأسماء الشابة. والمقدمة التي كتبتها ميمنة فرحات تعود إلى تجارب أقدم مثل لؤي كيالي وفاتح المدرس ونذير نبعة وليلى نصير وأسماء فيومي وغيرهم، لكي تربط منجزات الأجيال الراهنة بأسلافهم الذين شكّل الواقع والسياسة ومفاهيم الالتزام جوهر أعمالهم. الواقعية بتدرجاتها وطموحاتها المختلفة تكاد تختزل هوية الفن السوري كله. هوية تأخرت في الخروج إلى فضاءات المعاصرة، لكنها حافظت على متانة وملامح صنعت قيمتها الحقيقية أيضاً.