متعددة هي أوجه بيروت. على ضيقها، إلا أنها تحوي داخلها مجموعةً كبيرةً من المجتمعات المختلفة طبقياً وطائفياً وسياسياً ومعرفياً، تمثل بشكل من الأشكال كل لبنان بمختلف صراعاته وأطيافه، خصوصاً بعد حقبة الحرب الأهلية، أو لنسمّها «حقبة السلم الوهمي». قبل تسع سنوات، قدّمت ديالا قشمر شريطها الوثائقي «أرق» (98د ــــــ إنتاج 2013) الذي أزاح الطبقات السميكة من الكليشيهات التي أحاطت بـ «زعران» حيّ اللجى، لتقدّم صورة عن منطقة مهملة ساقطة من حسابات الدولة، يسكنها شباب مهمّش، محاصر بالفقر والبطالة وقابل لأن يكون قنبلة موقوتة، ووقوداً في أي حرب ماضية أو قادمة، تماماً كغيره من الشباب في عين الرمانة وأحزمة البؤس الأخرى التي تسوّر بيروت. فحي اللجى ليس سوى نموذج عن أحياء بيروت، منطقة مسحوقة بانعدام الأمل، تعكس قصص المدينة ونسيجها الاجتماعي وتاريخها الذي شكلته الحرب الأهلية والتهجير من قرى الجنوب إمّا بسبب الاعتداءات الإسرائيلية أو بحثاً عن حياة أفضل. دخلت ديالا قشمر إلى الحي الواقع في منطقة المصيطبة لتصوّر فيلمها الذي طُرح أخيراً على منصّة «أفلامنا». يُبرز الشريط («حرّاس الوقت الضائع» هو عنوان الشريط بنسخته الإنكليزية) الحياة الضائعة والرتيبة والعنيفة لشباب هذا الحي، معرّياً الكليشيهات التي تحيط بـ «الزعران». تُسرد حكاية الفيلم على لسان أبناء الحي من خلال إجاباتهم على أسئلة المخرجة، التي تبدو شخصية أساسية من شخصيات الفيلم. دخول قشمر كشخصية في الفيلم، تحاول أن تخلق تواصلاً مع شباب الحي فرض نوعاً من التصوير يعبّر عن رحلة المخرجة من البداية ومحاولاتها دخول عالم محمي جداً من قبل أبنائه الذين لا يرحّبون بالغريب. نرى في بدايات الفيلم أكثر من محاولة لقطع التصوير بطريقة عنيفة ومشاحنات مع طاقم التصوير. كانت الكاميرا تهتز كثيراً، تحاول أن تسرق صورة أو اثنتين، تتلصّص على الحي وسكانه، غير ثابتة تعبّر عن التواصل القلق بين المخرجة والشخصيات... إلى أن نصل إلى نهاية الفيلم حين أصبحت المخرجة صديقتهم. نرى علاقة الصداقة هذه عبر الكاميرا الثابتة واللقطات الطويلة التي أصبحت ترصد البوح الصادق لشباب الحي ورؤيتهم الحقيقية للعالم وذواتهم.
الإضاءة المختارة في الفيلم، كانت معتمة أثناء تحدث الشباب عن ذواتهم وجوهرهم الإنساني، تعبيراً عن حياتهم الخفية المعتمة على حساب الصورة المضيئة للشوارع التي تُظهر هوية المنطقة السياسية والطائفية عبر صور ولافتات كثيرة تضيع في داخلها ذوات الشباب الفردية.
تحكم وعي شباب الحي ثنائية الظلم والقوة، حيث يدركون في أعماقهم أنهم مظلومون من السياسة والمجتمع والوجود، حتى أنهم مظلومون من قبل أنفسهم، وهذا الشعور بالظلم يبرّر لهم اتخاذ القوة كمبدأ حياتي أساسي، يعيشون كخارجين عن القانون لا يثقون إلا في طائفتهم وقادتهم وقوتهم.
داخل هذه الثنائية، ينسج هؤلاء الشباب معاييرهم الأخلاقية الخاصة ورؤيتهم إلى تفاصيل الحياة، فيؤكدون بكثرة طيلة الفيلم أنهم لا يفترون على أحد، إنما استخدامهم للعنف هو دوماً للدفاع عن أنفسهم وكرامتهم، لا يعترفون بالخوف. السجن بالنسبة إليهم حتمية لحياتهم المختارة، تكسر الملل أحياناً. يتابعون أفلام الأكشن لأنهم يستمتعون بالعنف الذي يعبّر عن حياتهم التي يعيشونها. يسمعون الموسيقى الشعبية التي تتوافق مع أجواء المخدرات، ويعترفون في جلسة بوح في نهاية الفيلم أنّ المخدرات هي السبب الأساسي لتدمير حياتهم، ولذلك لا أمل لهم في مستقبل أبداً.
بالرغم من حديثهم الساخر والمتظاهر بالقوة، إلا أنّ الشريط يكسر الصورة النمطية لـ «زعران الحي»


وبالرغم من حديثهم الساخر والمتظاهر بالقوة الدائمة، إلا أن الفيلم يكسر الصورة النمطية لـ «زعران الحي» عبر دخوله إلى متناقضات حياتهم، وطرح وعيهم لأسباب الخراب الذاتي والمكاني، فتظهر في الفيلم ذواتهم الإنسانية وأثر الطائفية والمجتمع المصرّ على زجّهم ضمن قوالب جاهزة تعزز الصراع الطائفي.
عرض الفيلم اليوم في 2022 مهم، وخصوصاً بعد الأحداث الأخيرة التي شهدها لبنان، لأنه يقدم رؤية لشباب لبنان الضائع الذي يُستخدم في حروب وصراعات عبثية. يقول الشاب علاء في نهاية الفيلم أن من يملك المال والقوة وحده يستطيع النجاة في هذه البلاد، فهذان العنصران يوحّدان الجهات المتحكّمة بكل شيء. ولهذا يبحث الفيلم عما يوحّد شباب البلاد من خلال الخوض في ذواتهم الإنسانية، مبتعداً عن الهويات «القاتلة» بهدف خلق مستقبل أفضل لهؤلاء الشباب وبالتالي مستقبل أفضل للبنان.

* «أرق» حتى 23 آذار (مارس) على «أفلامنا»