لم يكن ممكناً لأمير الشعراء أحمد شوقي (1868-1932)، ولا لمحمد عبد الوهاب (1902-1991) كبير موسيقيّي العرب ومغنّيهم، إلا أن يكونوا عروبيّين لسببين أساسيّين على الأقل، يصحّان عند كليهما معاً بالقدر نفسه:- السبب الأول هو أنّ عشق أحمد شوقي للّغة العربية وبنيان كلّ مجده الخالد على منجزاته فيها، وانتماء عبد الوهاب الوجداني والثقافي والتربوي إلى بحر الموسيقى والغناء العربيّين، كانا رابطين متينين لا يمكن الفكاك منهما، في اتجاهات كبيرَي الشعر والموسيقى، بل في عمق أعماق وجدانيهما، المؤسَّسين على الثقافة العربية التاريخيّة اللغوية والموسيقيّة والغنائية. فإعراض شوقي عن الشعر العربي، لو حدث، لكان انسلاخاً لجلده. أما انكفاء عبد الوهاب عن الجذور التجويدية العربيّة في المقامات وإيقاع الكلَم والأنواع والأشكال الغنائيّة العربية، لو وقع هذا الانكفاء، لما بقي لعبد الوهاب الشيء الكثير من قيمته التاريخيّة.

لم يؤخذ على عبد الوهاب سوى وقوفه في استقبال السادات العائد من «كامب ديفيد» سنة 1977 لكنه أعرب لاحقاً عن ندمه

- السبب الثاني هو أنّ المصلحة الشخصيّة، بأضيق معانيها وأوسعها معاً، ما كانت تسمح لأيّ منهما، إلّا أن يكون عربي الهوى والميل والانتماء. ذلك أنّ شوقي، حين كتب قصيدة بلغته العربية البديعة تلك، لكان أوّل تفكيره أن يقرأها العرب، كل العرب، من المحيط إلى الخليج، وإلا لتقلّصت قيمته وسمعته بمقدار تقلّص المساحة العربية الشاسعة إلى الحدود المصريّة وحدها، مع أنّ شاعراً عبقرياً آخر، كتب باللهجة المصرية المحليّة، هو محمود بيرم التونسي (1893-1961)، تمكّن بعبقريّته تلك، وبفضل أغنيات كان من أبدعها ما غنّته أم كلثوم (1902-1975) بألحان زكريا أحمد (1896-1961) وعوامل أخرى، من اختراق الحدود المصرية، خروجاً إلى المجال العربي الفسيح. أما محمّد عبد الوهاب، فكان أمراً بديهياً، مع انتشار أغنياته وأفلامه السينمائيّة في العالم العربي على الخصوص، أن يربطه رابط قوي بالجمهور العربي الواسع، مستمعين ومشاهدين. هذا على الصعيد المعنوي، لكن الصعيد المصلحي المادي، لم يكن إلا ليعزّز هذا الرابط، لو كان له اعتبار عند الرجلين، وهو أمر مشروع وطبيعي وشبه مؤكد. لقد غنى عبد الوهاب في العهد الملكي المصري، ولا سيّما بين عامَي 1927 و1945، أربع أغنيات من الخوالد، ومن تأليف أحمد شوقي، نمّت عن ميل عروبي واضح، على الرغم من أن عدداً كبيراً من سياسيّي مصر الوطنيين، وكبار الأدباء والمفكرين المصريين اللامعين في ذلك العهد، ما كانت تعني لهم العروبة الكثير، في مواقفهم السياسية أو الثقافيّة.
هذه الأغنيات هي على التوالي:
- «يا جارة الوادي» (1927) نظمها شوقي عن مدينة زحلة اللبنانيّة التي جرى على عادة زيارتها بصحبة عبد الوهاب، في رحلاتهما الصيفية إلى لبنان في حزيران (يونيو) وتموز (يوليو)، قبل أن يكملا المصيف في باريس في أيلول (سبتمبر) وتشرين الأول (أكتوبر)، ليعودا بعدئذ إلى مصر. كان لبنان يمثل في مصر (مع السودان)، الإطلالة العربية الطبيعيّة في نظرهما، وقد تأكد ذلك في مواظبة عبد الوهاب على الخروج من مصر إلى لبنان كلما أراد فرجة استراحة. ولذا كانت علاقته بالموسيقيين اللبنانيين أوثق العلاقات.
- «يا شراعاً وراء دجلة» (1933)، التي كان شوقي قد ألّفها قبيل وفاته، وغناها عبد الوهاب لملك العراق فيصل الأول (1883-1933). كان فيصل في تلك السنوات قد تزعم ما سمي الثورة العربية الكبرى، التي قامت عام 1916 باسم القوميّة العربيّة، ضد السلطنة العثمانية، وهي الثورة التي أطلقها والده شريف مكة الحسين بن علي (1853- 1931)، تجاوباً مع إنكلترا في الحرب العالمية الأولى. وأياً كان حكم التاريخ على هذه الثورة وصدق عروبتها الحرة، فإنّ فيصل آنذاك كان في نظر عبد الوهاب زعيم القومية العربية في صيغتها تلك.
قصيدة «دمشق» (1943)، كان شوقي قد نظمها في سنة 1926 انتصاراً لثورة سلطان باشا الأطرش (1891-1982) في جبل العرب، خلال النضال السوري ضد الاحتلال الفرنسي الذي سمي آنذاك «انتداباً»، في تلطيف لغوي لم يكن له أثر لتلطيف قصف الفرنسيّين لدمشق. إذ إنّ قنابلهم لم تفرّق بين شراسة «الاحتلال» وعتوّ «الانتداب». وقد تكرّر الأمر عام 1943، خلال الحركة الاستقلالية التي قامت في سوريا ولبنان، في مواجهة الاحتلال الفرنسي. وفي تلك السنة بالذات، استخرج عبد الوهاب من دواوين شوقي القصيدة هذه، وغناها في إحدى روائعه الخالدات، لا من الناحية العروبيّة فقط، بل من الناحية الموسيقيّة الغنائيّة أيضاً. وفيها خاطب الشاعرُ دولة الاحتلال بقوله: «دمُ الثوّارِ تعرفُهُ فَرَنسا/ وتعلمُ أنه نورٌ وحقُّ». وبقوله: «وللحريّةِ الحمراءِ بابٌ/ بكلِّ يدٍ مُضرَّجَةٍ يُدَقُّ». وقد منعت السلطات الملكيّة المصريّة إذاعة هذه الأغنية العربيّة الرائعة انصياعاً لرغبة فرنسيّة. «إِلامَ الخُلْفُ» (1945) أغنية عربيّة أخرى كتبها شوقي في وضع عربي لم يكن يرضي ميله العروبي، ثم لحّنها عبد الوهاب بعد وفاة شوقي، في وضع عربي مشابه، هو الخلافات بين العرب في شأن العلاقة التي كانت قائمة بين مصر والسودان، إذ كان الملك المصري يُلقَّب رسميّاً بـ«ملك مصر والسودان». يقول شوقي في مطلع قصيدته مخاطباً العرب في البلدين: «إِلامَ الخُلفُ بينكُمُ إِلامَ/ وهذي الضجَّةُ الكبرى عَلامَ/ وفيمَ يَكيد بعضكُمُ لبعض/ وتُبدونَ العَداوة والخصامَ/ وأينَ الفوزُ لا مصر استقرَّت على حالٍ ولا السودانُ دامَ».
ولما كان شوقي قد نظمها في عهد فؤاد الأول (1868-1936)، فقد جاء في القصيدة: «أبا الفاروق أدرِكْها جراحاً/ أَبَت إلّا على يدكَ التئاما».
لكن لمّا كان عبد الوهّاب قد لحنها في عهد الملك فاروق (1920-1965)، الذي أطاحته حركة الضباط الأحرار بقيادة جمال عبد الناصر (1918-1970) في 26 تموز 1952، فقد بدّل بداية هذا البيت ليصبح: «فيا فاروق أدركها جراحاً/ أبَت إلا على يدك التئاما». وقد منعت السلطة الملكية كذلك إذاعتها، بحجة عدم الرغبة في إظهار الخلافات العربية للعالم. «أنشودة فلسطين»: هذه الأنشودة التاريخيّة (1948) لحّنها وغنّاها عبد الوهاب عندما حدثت نكبة فلسطين، وهي بالطبع ليست من شعر أحمد شوقي، الذي كان قد توفي قبل النكبة بست عشرة سنة. ويقول تاريخ الأغنية إنّ عبد الوهاب طلب من الأمير الآخر للشعراء، اللبناني الأخطل الصغير بشارة الخوري (1885-1968)، عند وقوع النكبة، أن ينظم له قصيدة في فلسطين، فتأخّر الأخطل الصغير في نظمها. عندئذ سارع عبد الوهاب إلى صديقه الشاعر علي محمود طه (1901-1949)، شاعر «الجندول» و«كليوبترا»، الذي كتب قصيدته «فلسطين»، وفيها يقول: «أخي جاوزَ الظالمونَ المدى/ فحقَّ الجهادُ وحقَّ الفِدا/ أَنَترُكُهم يَغصبونَ العروبةَ/ مجدَ الأُخُوَّةِ والسؤدَدا/ فَجَرِّدْ حُسامَكَ من غِمدِهِ/ فليسَ لهُ بعدُ أن يُغمَدا».
وهذه أغنية أخرى منعت الحكومة المصريّة إذاعتها، بطلب من المندوب السامي البريطاني، بحجة أنها لا تتناسب مع مفاوضات الهدنة بين العرب والمنظمة الصهيونية العالمية.
لقد تجلّت مشاعر عبد الوهاب العروبيّة بوضوح في حماسته الفنية الظاهرة، عند قيام الوحدة بين مصر وسوريا عام 1958، وفي أنّ رصيد أغنياته في عهد الرئيس عبد الناصر، الذي رفع لواء القومية العربية في عهده، بلغ 36 أغنية، بعضها من خوالده البارزة. وعلى سبيل المقارنة، فإن عبد الوهاب لم يغنِّ أي أغنية وطنيّة أو سياسيّة في عهد الرئيس أنور السادات، على الرغم من أنه كان في عز نشاطه الفني، تلحيناً لأم كلثوم ونجاة الصغيرة وعبد الحليم حافظ وفايزة أحمد ووردة الجزائريّة. ولم يؤخذ عليه في مواقفه القوميّة سوى وقوفه في استقبال الرئيس السادات العائد من «كامب ديفيد» سنة 1977، وهو الوقوف الذي اعترَف هو بأنه كان خطأً، بعد ثلاثة أشهر في صحيفة أردنية.
وفي أي حال، فإنّ مجرد اجتماع العرب على تعظيم أحمد شوقي وعشق أشعاره بالإجماع، ومجرد المقاومة الموسيقيّة والغنائيّة العربيّة التي ملأ بها عبد الوهاب أسماع الشعوب العربية ووجدانهم طوال 70 سنة، في وجه الغزو الثقافي، هما في النتيجة أصدق إنباءً من أي أمر آخر، في إسباغ السمة العربية الصافية على كلا الكبيرين: أحمد شوقي ومحمد عبد الوهاب.

* أكاديمي ومؤرخ لبناني