في «الشخص الثالث» (2013)، يحاول الكندي بول هاغيس (1953)، مخرج «كراش» (2004 ) الحائز ثلاث جوائز «أوسكار»، إعادة تركيب أحجية العلاقات العاطفية المتشابكة. ينسج هاغيس تفاصيلها بدقة ثم يعيد وصل أجزائها ليكتمل اللغز مجدداً. نهاية الفيلم كبدايته تبقى مفتوحة على كل الاحتمالات. يروي الفيلم ثلاث قصص مختلفة، حيث كل شخصية تتحول إلى طرف ثالث في العلاقة بين اثنين.
مايكل (ليام نيسون) روائي في منتصف العمر حائز جائزة «بوليتزر»، يلتقي في باريس بآنا (أوليفيا وايلد) عشيقته الصحافية الشابة الذي هجر زوجته من أجلها. جوليا (ميلا كونيس)، الممثلة السابقة، تعمل خادمة وتناضل لاسترجاع حضانة ابنها بعدما منعها والده من رؤيته، متهماً إياها بمحاولة قتله. في روما، يعثر شون (أدريان برودي) على حقيبة المرأة الغجرية الرومانية التي تعرّف إليها للتو في الحانة، الأمر الذي يحوله طرفاً في الصراع بينها وبين خاطفي ابنتها المزعومة. يجمع عبء الماضي المثقل بالذنب بين الشخصيات، فيلاحقها ويجعلها تدور حول نفسها كالأسماك التي تحاول الهرب بلا جدوى. الثيمات نفسها تتكرر في كل القصص، وان اختلفت الشخصيات. تحاول جوليا إثبات براءتها من تهمة قتل ابنها، ويحاول شون مساعدة الغجرية على استرجاع ابنتها حتى لو كان يدرك في قرارة نفسه أنها خدعة لسلبه المال عبر دفع فدية الطفلة، خصوصاً أنّه يشعر بالذنب تجاه ابنته التي ماتت غرقاً بعدما انشغل عنها بسبب عمله. (نكتشف أخيراً أنّ ابن مايكل قضى غرقاً بينما كان يتحدث مع عشيقته آنا لا عندما كان مشغولاً بالعمل كما يدعي).


تواكب اللغة السينمائية بإيقاعها حالة التنافر والتجاذب في علاقات الأبطال

سيناريوهات مختلفة يعرضها هاغيس، بينما يتشارك أبطالها اللاوعي نفسه لتتلامس فيها حدود العالم المتخيل مع الواقعي. يصل الفيلم إلى حدّ يلتبس علينا الأمر بين الشخصيات الحقيقية وتلك من نسج الخيال. يظهر هذا في النهاية حيث تجتمع كل الشخصيات في المكان نفسه، من ثم تختفي الواحدة تلو الأخرى بينما مايكل يلاحق آنا في الشارع.
صيغة الشخص الثالث (الغائب) التي يستخدمها مايكل حتى في كتابة مذكراته كما تشير آنا في بداية الفيلم، هي نقطة ارتكاز أحجية المخرج. ذلك الشخص الذي هو مزيج بين الأنا والآخر، يعيش على الحافة بين الوهم والحقيقة. تفاصيل صغيرة يضعها المخرج كمؤشرات على تلك الأنا وذاكرتها الخاصة التي تحاول الخروج من الشخص الثالث الذي يحبسها فيه الكاتب كما عندما يقول ابن جوليا لأبيه «أبي راقبني» من غير سياق، الأمر الذي لا نفهم له سبباً حتى نهاية الفيلم حين نكتشف أنّ ابن مايكل مات غرقاً. الحب والجنس كما يصوّرهما هاغيس من خلال الشغف الذي يحكم حياة مايكل وآنا العاطفية يتخللهما كثير من المناورات واللعب لخلق الإثارة ويخرج عن النماذج النمطية، فيضفي على الفيلم إيقاعاً حيوياً. كذلك شخصية آنا بتناقضاتها وحضورها القوي الذي يعززه أداء الممثلة أوليفيا وايلد، الذي يطغى على أداء بطل الفيلم ليام نيسون. إحدى مشاكل الشريط هو ضعف شخصية الكاتب كما يقدمه هاغيس، حيث لا تنجح جمله الأدبية فعلياً في إغناء الفيلم. إنّها جمل غير مبتكرة، تدعو إلى الضحك أحياناً، خصوصاً عندما يكتب مايكل في النهاية «الأبيض هو لون الثقة».
عبر القصص المتشابكة الذي يمزجها هاغيس، يشبه الفيلم في أسلوبه دراما الماتريوشكا أو الدمى الروسية. تفتح كل قصة باباً على أخرى، لكن البناء الذي يعتمده المخرج في نسج هذه القصص وتطويرها أشبه بالهرمي. في حين يمتاز إيقاع الشريط بالخفة في البداية، تتأزم الأمور تدريجاً إلى أن ينهار الهرم في النهاية ونكتشف اضطراب الشخصيات وصراعاتها الداخلية والأسرار الرهيبة التي تخفيها مثل علاقة سفاح القربى بين آنا وأبيها. اللغة السينمائية للشريط سواء بجماليتها أو بإيقاعها، تواكب حالة التنافر والتجاذب التي تحكم علاقات الأبطال العاطفية، ومشاعرهم المتنازعة بين البقاء والرحيل. أما أجمل مشاهد العمل فهي تلك التي تصوّر اللحظات الحميمية كما في العلاقة بين مايكل وآنا، أو بين شون والمرأة الغجرية في إطار مبتكر يبتعد عن الرومانسية المستهلكة.

* Third Person: صالات «غراند سينما» (01/209109)، أمبير (1269)




جوائز وسياسة

أنجز بول هاغيس باكورته الروائية الطويلة Red Hot عام 1993. إلا أنّه لن يحتل الواجهة إلا عام 2005 مع فيلم Million Dollar Baby الذي كتب نصّه، فيما أخرجه كلينت ايستوود ونال 4 جوائز أوسكار من بينها أفضل سيناريو لهاغيس الذي واصل تعاونه مع إيستوود في أفلام مثل «رسائل إلى إيوجيما». وفي عام 2004، أخرج هاغيس فيلمه «كراش» الذي قارب التوترات العرقية والاجتماعية في لوس أنجليس، ونال عليه ثلاث جوائز أوسكار. وفي عام 2007، أخرج فيلم «وادي الإله» الذي انتقد إدارة جورج بوش الابن والتدخل الأميركي في العراق.