بغداد | نصف الحرب شائعة، نظرية تطبّقها اليوم كلّ الفضائيات العراقية، الموالية والمعارضة للحكومة، الدينية والحزبية، القومية والطائفية بشتى توجهاتها. أحداث الموصل عرّت أخيراً معظم وسائل الإعلام العراقية، وكلّ الفضائيات العربية. بينما غابت التغطيات من ساحات القتال ومناطق الأزمات، انتشرت الشائعات والمعلومات الكاذبة باتجاهين متصارعين. تحوّل الجميع إلى غوبلز، فأشاعت بعض وسائل الإعلام أنباءً عن سقوط سريع لمدن أخرى بعد الموصل، واقتراب «داعش» من بغداد. بل ذهب بعضها إلى إشاعة الذعر والخوف في نفوس أهالي العاصمة العراقية، من خلال نشر أخبار تتحدث عن وصول المسلحين قرب مداخل المنطقة الخضراء.
في المقابل، أطلقت فضائيات موالية للحكومة العنان لاحتفالاتها عبر الهواء، وبث أغنيات وطنية ومؤيدة للقوات المسلحة، مصحوبة بأخبار عاجلة تتحدث عن استعادة الجيش مدن صلاح الدين ونواحي الموصل. وبدلاً من أن تمارس وسائل الإعلام العراقية مهمتها في تبديد الشائعات، أطلقت جملة من الأنباء والشائعات، بهدف شحن الشارع طائفياً.
تعاطي الفضائيات العربية والأجنبية لم يكن أفضل حالاً من الإعلام العراقي. معظم هذه المنابر بثت مشاهد منتقاة لحشود تسير على شارع سريع، قيل إنّها صور لهروب جماعي لأفراد الجيش في الموصل، ليتبيّن لاحقاً أنّها لجموع السجناء المطلق سراحهم من سجن بادوش. حتى إنّ مكاتب «العربية» و«العربية الحدث» وanb في بغداد شهدت أمس استقالات جماعية في صفوف موظّفيها احتجاجاً على ما سمّوه «سياسة هذه القنوات إزاء الشعب العراقي ودعمها لتنظيم «داعش»».
الكل وقع في الخطأ، وابتعد عن المهنية. لكنّ تدخل القوات الأمنية في إطلاق تحذيرات لبعض وسائل الإعلام، بداعي «بث الشائعات المخلة بالأمن الداخلي»، كانت صدمة جديدة للجميع. وجّهت القوات الأمنية تحذيراً للعديد من الفضائيات العربية والعراقية من مغبة «الترويج لمعلومات مغلوطة من دون التأكّد من المصادر الأمنية الرسمية». مكاتب «العربية»، و«العربية الحدث»، و«بي. بي. سي. عربي»، و«الشرقية» كلّها تلقت تحذيرات مباشرة من القوات الأمنية، مهددة بإغلاقها إذا استمرت على «نهج الشائعات والأخبار المغلوطة». وبدأت الحكومة العراقية أيضاً بحجب بعض المواقع الإخبارية، ومنها موقعا «العربية» و«الجزيرة». جاءت هذه الخطوة بعدما حجبت وزارة الاتصالات الخميس الماضي مواقع التواصل الاجتماعي واليوتيوب لـ«دواعٍ أمنية».

استقالات جماعية
من مكاتب «العربية»
وanb في بغداد


من جهته، دعا المتحدث باسم مكتب القائد العام للقوات المسلحة اللواء قاسم عطا وسائل الإعلام يوم السبت إلى «توخي الدقة في نقل المعلومات»، مهدّداً باتخاذ «إجراءات للتعامل مع أي شيء لحماية المواطن»، في إشارة إلى تفويض رئيس الوزراء نوري المالكي الجهات الأمنية بمراقبة الفضائيات ووسائل الإعلام التي تنتقد القوات الأمنية. وشنّ اللواء عطا هجوماً على قناة BBC Arabic بسبب «تعاطيها مع الحدث بالاعتماد على مصادر غير رسمية». جاء ذلك بعد يوم واحد من تلاسن جرى في برنامج حواري على القناة بين القيادي في حزب «الدعوة» الإسلامية وليد الحلي، والخبير العسكري المصري صفوت الزيات. بعد حديث الثاني عن «أسباب انهيار الجيش»، رد عليه الحلي متسائلاً: «هل الضيف من «داعش»، أنتم تستضيفون خبيراً عسكرياً أم عنصراً في داعش؟». وبينما وعد اللواء عطا بتنظيم «جولات إعلامية بصحبة جميع وسائل الإعلام لزيارة أرض المعارك في بعض المناطق للتعرف إلى الحقائق»، وتقديم موجز إعلامي يومي، تواجه وسائل الإعلام العراقية والعربية والعالمية فقراً شديداً في المعلومات الحقيقية، وغياب لصورة ما يحدث في مناطق الحرب المشتعلة.
في هذا الإطار، دعت «جمعية الدفاع عن حرية الصحافة في العراق» القوات الأمنية إلى عدم تجاوز صلاحياتها، وتأكيد حرية الصحافة. وأكد المدير التنفيذي للجمعية ياسر السالم أنّ ما يجري «مؤشر إلى فوضى وانتقائية مؤسفة في تحذير وسائل الإعلام، إذ إنّها حذرت فضائيات دون غيرها، رغم اتباع الجميع أسلوب الشائعات، بدلاً من نقل المعلومات الحقيقية».
وتابع قائلاً إنّ بعض الفضائيات في إطارها السياسي «حشدت جهودها لإظهار ما حدث بأنّه ثورة سنية تركزت في المحافظات السنية المغلقة، ونقلت تقارير من قلب الموصل تتحدث عن عودة الحياة إلى طبيعتها بعد خروج الجيش العراقي، مقابل توتر الأجواء في بغداد عقب إعلان الجهاد الكفائي من قبل المرجع السيد السيستاني، فتلقت إنذارات من جهات أمنية أو تنفيذية». وأضاف السالم أنّ «الفضائيات شبه الرسمية أو التابعة للأحزاب الإسلامية الشيعية شحنت الشارع بدعوتها إلى حمل السلاح ومساندة القوات الأمنية، لكنها بثت عشرات الأنباء المغلوطة، من دون أن تتلقى أي تحذيرات من هيئة الإعلام والاتصالات أو من القوات الأمنية».
الكثير من الفضائيات ووسائل الإعلام المناوئة للحكومة، سلطت الضوء خلال اليومين الماضيين على تهاوي الجيش العراقي، مستفيدة من الموقف لمهاجمة الحكومة العراقية وتناسي ما فعلته «داعش» خلال اليومين الماضيين، من تشكيل محاكم عسكرية، وتوزيع منشورات تسلب الحريات الشخصية من أهالي الموصل. وتناست مسؤولياتها ومهماتها للوقوف إلى جانب القوات الأمنية في محاربة الإرهاب.