القاهرة | تشيَّع اليوم في القاهرة فتحية العسال (1933 ــ 2014) التي أعطت نموذجاً لافتاً للمرأة العصامية التي كانت أقرب إلى الرمز الثقافي والنسوي النضالي (الأخبار 1/7/2011). خلال اعتصامات وزارة الثقافة التي أجريت العام الماضي (الأخبار 29/6/2013) لابعاد وزير الاخوان المسلمين علاء عبد العزيز عن مقعده، أعطى حضور العسال لأحداث الاعتصام قيمة رمزية، بما كانت تمثله من قيم تتعلق بعصاميتها ونوعية الخطاب الذي سعت إلى تعميمه بربطها بين النضال الشخصي والنضال العام.تكشف سيرتها الذاتية «حضن العمر» (الهيئة المصرية العامة للكتاب ــ 2004) عن نقاط تحول بارزة ميزت حياتها التي يصعب فيها الفصل بين ما هو شخصي وما هو عام على نحو تشير اليه الناقدة شيرين ابو النجا في دراسة عن الراحلة. تلفت أبو النجا إلى أنّ تصوّر العسّال للكتابة ظل دائماً مرهوناً بفكرة «التطهر»، ولذلك تشيع فيها النبرة الاعترافية وحس التعويض عما افتُقد في الحياة الواقعية.

يتناول الجزء الأول الفترة من 1933 (تاريخ ميلاد الكاتبة) حتى عام 1953 عندما اعتقل زوجها عبد الله الطوخي للمرة الأولى. في هذا الجزء، نحن أمام عائلة من عائلات الطبقة الوسطى المصرية. نشأت العسال في بيئة تقليدية حاضنة لكل صور التخلف الاجتماعي، حيث يمثل الأخ الأكبر الحارس لقيم العائلة والمتسلّط على شقيقته لقمع رغباتها. في النص، تشيع النظرة المعيبة للمرأة التي عملت العسال على مقاومتها دائماً بإشاعة قيم مضادة في أعمالها الفنية وسيرتها الذاتية. سعت مثلاً لاستكمال تعليمها الذي اتخذت اسرتها قراراً بحرمانها منه بعد الحصول على شهادتها الابتدائية. في هذه السيرة، لم تخجل من الكشف عن ألمها الشخصي بسبب خيانة والدها لزوجته، والكشف عما تركته من ندوب في روحها. كما سعت الى تبني قيم مضادة لقيم الخنوع والقبول والمهادنة التي جرى ترسيخها في وعيها خلال سني المراهقة والطفولة. وهو وعي اختلف كلياً مع زواجها من المناضل الماركسي الكاتب عبد الله الطوخي (1926 ــ 2001) الذي انفصلت عنه عام 1981. في هذا الجزء أيضاً، تتماهى الكاتبة بين موقفها من أول تظاهرة مناهضة للاحتلال الانكليزي، وأول تظاهرة شاركت فيها. يمكن تلمّس أصداء هذا العمل في نصها الدرامي الاول «هي والمستحيل» الذي تحول إلى مسلسل نال شهرة كبيرة منتصف السبعينيات ولعبت بطولته صفاء أبو السعود ومحمود الحديني. في الجزء الثاني، نرى حياة العسال أثناء اعتقال زوجها، كأنها تواجه العالم للمرة الأولى بمفردها (1953 ـ 1955). هو جزء يذكر بكتاب عطيات الأبنوي «أيام لم تكن معه»، إذ نرى تناقضات من نوع آخر بين تصورات الشيوعيين المصريين لأوضاع مصر، وتصوّر الدولة الناصرية. تناقض لم يفلح الزمن في ترميمه حتى الآن. لكنّ الكاتبة كشفت فيه عن تبلور دورها العام، إذ تحوّلت إلى مسؤولة عن لجنة عائلات المسجونين السياسيين، ثم انخرطت في الحياة الحزبية السرية.

تحفل كتاباتها بكل ما شاع
في أعمال مجايلاتها أمثال لطيفة الزيات ونوال السعداوي

وكان زكي مراد هو مسؤولها الحزبي. بعد اعتقاله، حلّ صلاح حافظ محله، وأسهمت سعاد زهير (والدة الكاتب لينين الرملي) في عملية تثقيفها سياسياً. وشاركت في التظاهرات التي تنادي بالغاء الاحكام العرفية، حتى ألقي عليها للمرة الأولى عام 1954 وتم حبسها في «تخشيبة قسم المطرية» بمفردها مع طفلها الرضيع ايهاب. ارتباطها بزوجها الماركسي، ونشاطها في تنظيم «8 يناير» الشيوعي في عهد عبد الناصر، ومعارضتها «اتفاقية كامب ديفيد» خيارات دفعتها إلى السجن مراراً عامي 1956 و1979.
تحفل كتاباتها بكل ما شاع في أعمال مجايلاتها أمثال لطيفة الزيات ونوال السعداوي وكل ما طرأ بعدها من تغييرات. النقد لا يتعلق فقط بقيم اجتماعية متوارثة تضع المرأة في الدرجة الأدنى بل امتد ليفضح تناقضات المثقف اليساري بين مقولاته النظرية وممارساته على أرض الواقع. بطبيعته، يبدو الجزء الثاني من المذكرات محمّلاً بنفس بانورامي لافت حيث يشكل مرآة لرؤية تجارب المناضلين اليساريين عن قرب وقد تحول معظمهم الى شخصيات عامة مثل عبد الرحمن الخميسي، زكي مراد، والكاتب الراحل سعد زهران. إلا أنّ أكثر ما يلفت النظر هو التفاتها الى نموذج السجّانة «جمالات» التي كانت وسيطاً لتبادل الرسائل بينها وبين زوجها المعتقل. نموذج تطور درامياً في نصها الشهير «سجن النساء» الذي تحوّل إلى مسلسل تلفزيوني يُعرض في رمضان المقبل من بطولة نيللي كريم. وقبل هذا المسلسل الذي كان سيكرس حضورها في سوق الدراما الجديدة في مصر، قدمت العسال أكثر من 57 مسلسلاً تلفزيونياً منها «لحظة صدق» الحاصل على جائزة أفضل مسلسل مصري لعام 1975 كما تنوعت كتابتها بين المسرح والتلفزيون، حيث قدمت العديد من المسرحيات أولها باكورتها «المرجيحة» و«نساء بلا اقنعة» ومسرحيتها المؤثرة «سجن النساء» التي كتبتها داخل زنزانة الاعتقال.