قال أفلاطون: «الحبّ وسيلة للخلاص، فهو الطريق نحو التحرّر الفكري والعاطفي، الذي يقود الإنسان إلى حريّته». وقال ابن عربي: «يبدأ الحبّ بالهوى، ثم المَيل العاطفي، الذي يقوم على الإخلاص لمحبوب واحد، يُغنيه عن الكون بأكمله». حول هذا الموضوع، كتب الشاعر طراد حمادة «بستان الغزل» (منشورات الجمل) بأسلوب سيميائي حديث. جمع في قصائده الأربعين: الغزل، الوصف، الفلسفة، غزل الرُّعاة، التّصوّف والعرفان.. أول قصيدة عنوانها «أيّها العشق» وهي المفتاح لقراءة القصائد التي تليها. يقول الشّاعر: «أيّها العشق/ إصغِ إليّ/ أجنحتي طليقة/ وقولي سديد». يُنادي العشق باستعمال فعل الأمر ليلفت إلى أهميّة ما سيقوله. «حبيبتي ساحرة الوجد». تحدّث عن الحبيبة موضع عشقه. سلبت قلبه. يسكب كأساً، تلوَ أخرى ولن تشفيَه الخمرة ولو شرب دنان الدّير. يستعمل الشّاعر لغة الصّوفيّين التي تتّسم بالرّمز والإشارات، والسبب أنّ الأسرار الإلهيّة، والحقائق الرّوحانية، لا يحيط بها وصف، ولا بيان.
لم يرد ذكر الخمرة والسُّكر بمعناهما الحقيقي، بل المجازي. وهذه المحبة في الأسرار العرفانية، هي التي بواسطتها، ظهرت الأشياء، وتجلّت الحقائق، وأشرقت الأكوان. هي الخمرة الأزليّة، التي شربتها الأرواح، فانتشت، وأخذها السُّكر، واستخفّها الطّرب، قبل أن يُخلق العالم. حبّه شريف وخمرته رمز عشقه الكبير وشوقه لرؤية الحبيبة. تكثر المفردات المتعلّقة بالخمرة، لتزيد التأكيد على تعلّقه بها. يقول الشاعر: «افتحي عينيكِ/ على لوحة أنفاس الغابة/ وقولي سيأتي حبيبي/ ويأسر غزالة روحي/ في مرج النّور». يعكس الرّمز، كلّ خفايا النّفس، من عواطف وانفعالات وأمور مكبوتة في اللّاشعور، فتُصاغ الرّموز كبدائل، لتنوب عن الأصل الذي ترمز إليه. ففي قوله «لوحة أنفاس الغابة» صورة فنيّة جعلتنا نتنفّس ونشاهد مساحات خضراء من الجمال على مدّ النّظر كأنّها الجنّة. «غزالة روحي» كناية عن الرشاقة وسرعة التّنقل، كأنّها تبحث عن شيء تبتغيه. هي النّفس القلقة لا تستقر إلّا بالإيمان الحقيقي، والوصول إلى الحكمة الإشراقيّة. اتخذ الصوفيّون من المرأة، رمزاً موحياً دالاً على الحبّ الإلهي، وحاولوا التأليف بينهما، لأنّ الأنثى تمثّل رمزاً من رموز الجمال المُطلق. وحين يبثّها الشّاعر وجده، إنّما هو في الحقيقة يُعبّر عمّا ترمز إليه، إلى الحقّ والجمال. ظهر الشاعر في قصيدته صوفيّاً بدرجة بلغ فيها مقاماً رفيعاً، أظهر عشقه الإلهي من خلال حبيبته الرفيعة المقام والصفات التي تليق بمقام المعشوق.
من مدينة شيراز السّاحرة، عبقري الشعر الفارسي، هو سعدى الشيرازي، قارن رالف ايمرسون كتاباته بالكتاب المقدّس، من حيث حكمته وجمال روايته. من أهم ما كتب «روضة الورود» وكتاب «البُستان». يقول طراد في قصيدة «بُستان سعدى»: «أول السّامعين من شيراز/ أنتِ/ شممتُ رائحة عطرك/ في حديقة داري/ ونظرتُ إلى أوّل الطّريق/ بين شيراز والحجاز/ علّني أراك/ آتيةً من جوار البيت/ وفي جعبتك/ مفاتيح عشقي».
القسم الثاني من الكتاب بعنوان «غزليات» جمع قصائد قصيرة، كأنّها همسات في أذن الحبيب. في قصيدة «يجيء الطير إلى عرش سليمان»، يقول: «استعارت شالها من صبايا صنعاء، ونامت قرب سكّة للقوافل/ تحمل القات من حضرموت إلى بابل القديمة». كُتبت القصيدة من وحي قصّة نبي الله سليمان وبلقيس ملكة سبأ التي يعود أصلها إلى اليمن، امتازت بالحِكمة، ورجاحة العقل، حفظت قومها من القتال والفناء، وجلبت لهم الخير بأن تركوا عبادة الشمس، وآمنوا بالله. عُرفت في الحضارة الإثيوبيّة والرّومانيّة، ويعود تاريخها إلى القرن العاشر قبل الميلاد. ذكرها القرآن الكريم باسم «امرأة» على لسان الهدهد في سورة النمل الآية ٢٣ : «وحين يدخل الصّيف/ وتنضج في الحقول/ السّنابل/ تجيء الطّيور إلى موعدها/ مع سليمان عند الضّفاف/ سخّر الله الطّير لنبيّه سليمان وعلّمهم لغته، كان يتفقّدهم باستمرار... ومنهم طائر مزوّق العنق/ بالأحمر، يقدِم قبلها/ ويفتح الطّريق إلى عرش/ الحكيم». هذا الطّائر هو الهدهد، الذي عُرف بذكائه وحكمته، وكان السّبب لقدوم بلقيس إلى بلاد النّبي. قال لسليمان: أحطتُ بما لم تحط به كأنّه يُشبه فلاسفة أثينا. جاءه الهدهد من بلقيس بالنّبأ/ العظيم/ بأنّها ستأتي لترى الأمر بعد أن ردّ هديتهم، فأنبياء الله لا تُغريهم، الأمور الماديّة وزُخرف الدّنيا، بل يهدفون إلى هداية النّاس، لعبادة الله وتوحيده. كانت هذه القصّة مادّة خصبة لكتابة القصص والقصائد والأعمال الفنيّة. ما يميّز قصيدة طراد أنّه كتبها بأسلوبه المتجدّد بإيحاءاته الرّمزيّة، ودلالاته الإيمانيّة.
القسم الثالث من الكتاب حمل عنوان «غزل الرّعاة». يدلّ مصطلح «الرّعويات» على أشكال من العروض الفنيّة لحياة الرُّعاة، من الشعر، الموسيقى والمسرح. والتسمية مستقاة من الشّخصيّات الفاعلة في العمل الفنّي (راعٍ وراعية) التي ترتبط، مكانياً بريف حقيقي أو مُتخيّل. يقول في قصيدة «نشيد إنشاد الغزل»: «قالت: هل تعرف/ تاريخ الرّعي/ وما ترويه الأنهار/ ولماذا أحببت عيوني/ وكيف رويتَ على فم القيثارة/ قصّة حبّي؟». اهتم الذين كتبوا الشّعر الرّعوي بوصف سحر الأماكن القرويّة، وتاقوا إلى فضاءات فردوسيّة، وأركاديا مدهشة، يسودها الحب، الإخلاص والوفاء، الرعي، الشعر والموسيقى. طراد ابن سهل البقاع، منطقة الهرمل، تربّى على ضفاف نهر العاصي، ولامس هذه البيئة بشكلٍ مباشر بكلّ حواسّه، فكيف لا يصف هذه البيئة شعراً؟!.
اختار حمادةكتابة بلاغة الشّعر لأنّ فيها، لذّة الفِكر، ونشوة القلب، ومتعة الأذن، وطرب النّفس، وحركة الكيان، بسحر البيان. يسعى في قصائده إلى إيصال مفاهيم متعالية، وجماليات الخلق، والطبيعة، والرّوح العرفانيّة الإيمانيّة، وكلّ واحدة فيها مضامين، مليئة بالعِبر، ونهج حياة. أثّر عبقري الشّعر الفارسي سعدى الشّيرازي بكثيرين. تأثّر به طراد حمادة المُعجب بالحضارة الفارسيّة وشعرائها، وهذا الأمر واضح من خلال ما نقرأه في كتاباته، ومن عنوان هذا الكتاب. كتب سعدى الشيرازي كتاب «البُستان» وأضاف إليه حمادة كلمة «الغزل»، فأهدانا: «بُستان الغزل».

* كاتبة وناقدة لبنانية