سيارات مهشّمة، مقاعد محطّمة وصوفا ممزّقة، شوارع مكسوّة بالزجاج، نوافذ معلّقة بين طبقات الأبنية، ثقوب هائلة في الجدران، بقايا أشياء حميمة خلّفها الناس وسط الفاجعة؛ هذه بعض من تفاصيل لوحات معرض عمر فاخوري «أشياء وأشياء أخرى» الذي تحتضنه «مرفأ» في بيروت لغاية 29 نيسان (أبريل) المقبل. تبدو الغاليري منصة مثالية لهذه الأعمال، فهي أحد الأماكن التي مُنيت بالخراب ذات رابع من آب 2020.
«جزئية 9» (أكريليك على كتان ـــ 47 × 57 سنتم ـ 2021)


«ألفا» (أكريليك على كتان ـــ 140 × 200 سنتم ــــ 2021)

يكترث الفنان إلى أمور صغيرة وأشياء مهمّشة خسرها الناس في الانفجار، خصوصاً تلك لم تستوقف فنانين أو فوتوغرافيين كثراً. كأننا بفاخوري حاملاً صندوقاً لجمع الكؤوس والأواني المكسورة، والقمصان المتدلّية العالقة بين الطبقات، أو حتى سيجارة لم يكملها صاحبها. يخوض فاخوري المهمّة الفنية الصعبة، محوّلاً المتروكات والمهملات التي كان يجمعها رافعو الأنقاض إلى مادّة تشكيلية لإيصال هول الفاجعة وآلامها. يتناول الجزء ليدل على الكلّ. أجزاء من الأجساد والمنازل والغرف والأدراج والأشياء الخاصة والصغيرة... فتتحوّل الأشكال الهشّة والبقايا والشظايا إلى لوحات بالأكريليك ذات أحجام صغيرة أو متوسطة أو كبيرة. منمنمات فجيعة وخسارة وذكريات تنفذ إلى عمق الألم لضحايا أو ناجين.
نقع في لوحاته على أوانٍ وسلالم وكراس بلاستيكية ودمى أطفال معلّقة على شجرة وأسطوانات وبقايا نظارات ومنافض سجائر… كأنّ فاخوري حين يرسم الخراب ببشاعة تفاصيله، كأنّه يسعى إلى «جمالية البشاعة» فنيّاً. هو لا يرسم طبيعة جميلة ولا وجوهاً آسرة، بل يسير على خطى رسامين وشعراء وسينمائيين وفوتوغرافيين اشتغلوا على «جمالية البشاعة» إنْ في الفن التشكيلي أو في الشعر أو في السينما والمسرح. مع أعمال فاخوري، نحن أمام «معرض الجراح».

«سلفستر مقيّد إلى شجرة» (أكريليك على كتان ــ 130 × 110 سنتم ـ 2021)


«جزئية 3» (أكريليك على كتان ـــ 47 × 57 سنتم ـ 2021)

فكلّ تفصيل جرح يغطّي صرخة أو دمعة أو جسداً ممزقاً أو منزلاً متناثراً. إنها اللوحة الإنسانية خلف اللوحة الفنية، للتعبير عن الخراب المهيمن لا عن جماليات فارغة من أصولها ومنابعها، بل هي، إنّ كان التعبير ملائماً، «جماليات» الموت والرعب وصراع البقاء وما بقي من معالم المدينة وما لم يبقَ. يرسم فاخوري جروح المدينة وانكساراتها، تفاصيلها وجزئياتها، صمتها ودوّيها واهتزازاتها، ما بعد الانفجار.
تذكرنا لوحته «ألفا» بالسيارة الشهيرة للنحات الأميركي تشارلز راي، وقد يكون فاخوري تأثر به واتخذه مرجعاً، إذ يرسم مركبة أخرى في لوحة «السيارة النائمة». التنقل معطّل في عالم فاخوري، وكذلك هي الراحة، حيث الأشياء المنزلية كلها محطّمة وغير صالحة للاستعمال. يختار فاخوري عناوين لافتة ومحمّلة بالمعاني للوحاته مثل: «مقعدان: إلى أن يفرقنا الموت»، و«سلفستر مقيد إلى شجرة»، و«صوفا ترتاح في غرفة»، و«سجادة وسلم»، و«نباتات في السماء»، و«قطي المفضل» و«منظر بحري للجريمة».
نحن أمام «معرض الجراح». فكلّ تفصيل جرح يغطّي صرخة أو دمعة أو جسداً ممزقاً أو منزلاً متناثراً


فاخوري يرسم جدارية واحدة ذات ثلاثين عنواناً، جدارية بنوافذ عديدة يعبّر مجملها عن مشاعر أليمة خاصة لا بدّ أنها ساوَرت مالكي الأمكنة والأشياء الماثلة في اللوحة. هي لعبة الاختزال، لا التعبيري أو التقني فقط، بل اختزال الحطام بأجزاء تعبّر عن المشهد المأسوي على اتساعه، مثل شاعر يخطّ سطوراً منفصلة تكوّن المشهد الشعري المكتمل.

* «أشياء وأشياء أخرى»: حتى 29 نيسان (أبريل) المقبل ــ «غاليري مرفأ» ـ للاستعلام: 01/571636