هذا الرّخام الصلب والصامت الذي تركته منى السعودي أمام أبصارنا، كثير الطرواة والليونة وكثير الكلام.كانت تنحته في أحلامها، ورافقها يوم جاءت من عمان إلى بيروت لتولد ولادتها الثانية في حداثة وثورة بيروت الستينيات في الشعر الحديث والفن التشكيلي رسماً ونحتاً. ورافقها إلى باريس ليدخل معها معاهدها الفنية ومحترفات فنانيها الكبار في الوقت الذي كان يصغي معها لهمسات من هنا وهناك، عن ثورة في الحبّ والعيش والحلم والفكر والفلسفة.
هزيمة الخامس من حزيران 1967 حملت منى إلى مخيّم البقعة لتبدأ مسيرتها مع تجربة أطفال المخيم، في كتاب «شهادة الأطفال في زمن الحرب».
تختصر منى السعودي في مسيرتها الفنية والحياتية زمن الهزائم وزمن الثورات. عاشت يوميات وسنين الثورة الفلسطينية، وعاشت يوميات وفصول ثورة الحداثة، في الشعر والأدب والموسيقى والعمارة. آلمتها الحرب الأهلية في لبنان، وآلمها استشهاد رفاق وأصدقاء وكتّاب وفنانين.
اشتعلت في عروقها آمال جديدة، وأخفت في عينيها دمعها لخسارات جديدة، ربيع عربي وخريف سريع. انتفاضات هنا وهناك، وخيبات هنا وهناك.
في صلابة وصمت هذا الرخام الذي تركته منى السعودي، أمام أبصارنا شهادة عن كيف اجتمعت الهزائم بالانتصارات والآمال بالخيبات.
هكذا يحدّثنا هذا الرخام كيف تحوّل إلى أمومة، إلى حنان، ترقّ أطرافه، كما ترقّ نسائم الصباح، يصير الحجر طرياً كالماء، ناعماً كالهواء.
حجر أنثوي يخبرنا عن عناق، عن انحناء، عن لطف، عن خفر، وحجر صلب يتحدّث عن صبر وتأمّل وحكمة.
هكذا يقف هذا الرخام وسط هذا الخراب الزاحف علينا من كلّ صوب كضوء، كسلام، كأمل، كحبّ، كعناق.

* فنان ومنظّر لبناني