بدأ يوسف رخا (1976) كتابة الشعر في الـ 17 من عمره، ولم يتوقّف عن تأليف القصائد حتى عندما عزف عن بقية الأشكال الأدبيّة متفرغاً للصحافة من 1999 إلى 2005. يكتب أن الأدب كلّه شعر، وقد فرح عندما أدرك أنّ القدماء في عصور لم يكن فيها الشعر يُكتب إلا عمودياً - ومن هؤلاء الجاحظ - يتفقون على أنّ ما يجعل الكلام شعراً لا علاقة له بالوزن والقافية. الأدب أو الشعر بهذا المعنى هو ما يحسّه خطاباً له سيادة على الواقع لا العكس، غاية لا وسيلة. خطاب يسعى إلى إنتاجه في كل الأنواع الأدبية التي يمارس كتابتها سواء كانت شعراً أو سرداً أو مقالات. كثيراً ما يتلاقى في كتابته مع نصوص من الماضي البعيد أو القريب. الكتابة بالنسبة إليه حوار مع الأدب، بقدر ما هي حوار مع الواقع. لا يعني هذا الركون إلى الثوابت، بل عقد الصلة مع الماضي من خلال الإبداع بهدف البحث عن الحقيقة، ما يحتّم أن يكون هناك تجديد في العلاقة مع منجزات الماضي وليس فقط إعادة إنتاج لها. في الأدب، تواصل عبر الزمان والمكان خصوصاً في اللغة العربية، وهذا ما يسعى إلى إبرازه. الجهل بالنسبة إليه ليس غياب المعرفة لكن رفضها، ليس أن لا تعرف ولكن أن تكون ضد التعلّم. 

يسعى إلى تهريب الشعر عبر أنواع أدبيّة أخرى

يستدعي رخا الماضي لا ليفهمه فقط، بل ليخلق منه كتابة. كتب عن بيروت لا ليفهم المدينة لكن ليفهم ذاته. ينتقل من حيّز مكاني إلى آخر كي يكتب. يصطدم بمكان، فتضيء الصدمة ما يعرفه أكثر ما تضيء المكان. عيناه كاميرا يحاول عبرها التقاط ذاته، ربما يحاول أن يفهم الخزي، الألم، الخذلان، وحتى الحب من خلال الشعر. يرى أن الكتابة لا تأتي إلا من الحب والموت، لا محرك حقيقياً إلا الألم والرغبة. يكتب محاولاً استخدام اللغة في فهم العالم.
«الشعر يُغيّر العالم». يكرر يوسف رخا هذه الجملة في كتابه الأخير «ولكن قلبي: متنبي الألفية الثالثة» (2021)، ولا يعني بها أن الشعر ذو دور اجتماعي أو سياسي، بل إنّه يؤثر على وعي قارئه فيغير العالم كما يخبُره القارئ. يقول في «ولكن قلبي»: «وحتى لو لم يقرأه إلا شخص واحد، يظل أثمن وأروع من المنتجات الترفيهية بما فيها الكلام الموزون المقفّى لهذا السبب.»
هكذا ‏يواجه العالم بالشعر، ويرى أنه لولا الشعر ربما، ما كان كتب حرفاً. وحين كتب ليكشط الجير عن قلبه، فقد كشط الجير عن قلوب قرائه. رخا يكتب الشعر لهدف محدد، فالهدف يتغير كما تتطور الكتابة. هو يكتب لأن الشعر تمكن منه فقط. وحتى عندما أثارت الجدل مقولة إن الأدب كله شعر، ونظر بعضهم إليه على اعتباره مبالغة، أوضح أنه لا يقصد التقليل من قيمة الأنواع الأدبية الأخرى كالرواية أو القصة التي يمارسها بنفسه. 
يُضيف أنه يسعى إلى تهريب الشعر عبر أنواع أدبية أخرى، محاولاً التغلّب على ما يحدث من حوله: الكذب، التربّح، حتى الاحتفال بالكتابة السيئة. يرى أنّ الشعر في كل شيء، حتى النظريات العلمية فيها شعر، الفيزياء، الأبوة، أفلام تاركوفسكي، وهذا هو الشعر الذي ينطوي عليه الأدب كله وليس فقط شكل القصيدة.
يتوجّس من وصف كتابته بالتناص، فهو يشتبك مع النصوص ولا يتناص معها بالضرورة. حدث اشتباك واع تحديداً مع كتابَي «الطغرى» و«ولكن قلبي». يفرّق بين محاكاة المتنبي أو التماهي معه، وبين التناص الذي مارسه أدونيس مثلاً. في كتاب «ولكن قلبي»، ذكر أنه كان يبحث عن أبيات «تخبطه» مثلاً لا عن لغة أو طريقة كتابة.
يفرّق بين محاكاة المتنبي أو التماهي معه، وبين التناص الذي مارسه أدونيس مثلاً


يلاحظ فيهما إقباله على التفاعل مع النصوص القديمة من منظور معاصر محاولاً فهم أبعادها واستنباط معانٍ مختلفة منها، لا إعادة إنتاجها أو تقليدها. يقول إنّ اهتمامه بالتراث قد يكون له صلة بنشأته وسط جيل يقطع مع التراث تماماً وينصرف إلى الشعر المترجم، كما يقلق من التأثر لدرجة وصمه بالسرقة، وهو ما سعى إلى تجاوزه. إذ يرى أن الأدب نتاج حتمي لما سبقه. لا موجود من تلقاء نفسه. الأدب نهر متصل، والخوف من التأثر مرفوض. المهم أنه يرى نفسه نداً لمن سبقه حيث لا ينطوي لقاؤه بهم على تقديس أو انبطاح. 
يميل رخا إلى التجريب في شكل الكتابة. من هذا المنطلق لا يرى «ولكن قلبي» ديوان شعر بل كتاباً فيه شعر وسرد وأيضاً أعمالاً تشكيلية (لوليد طاهر). وقد قلق بعض الشيء حين انتبه إلى أنّ الناس يربطون بين العنوان الفرعي وبينه شخصياً. لم يكن المقصود أن يقرن نفسه بالمتنبي، لكنه اطمأن حين وجد الكتاب رائجاً لدى القارئ الكلاسيكي المشغول بالتراث وعادة ما قد يرفض حتى محاكاته.
يقول إنه حاول أن يحاكي المتنبي في زمن لا يعرف المتنبي عنه شيئاً. لعله - هكذا يؤكد - كان يحاول أن يعرف ويداوي نفسه من خلال المتنبي. مرت علاقته بالمتنبي بأكثر من مرحلة، لكن في الأخيرة، وجد نفسه في علاقة جديدة معه، علاقة تقليب المواجع، كأن المتنبي كان باباً مغلقاً فجأة انفتح. لعل الحياة مفتاحه.
 هكذا عفوياً وجد نفسه يترجم المتنبي كما يقول. لم يكن يترجمه من لغة إلى أخرى، بل من زمن وحساسية إلى زمن وحساسية. ولا يفزع من فكرة أن يجيء المتنبي الآن ويقرأ ما كتبه هو كردّ فعل لأعماله، فالأرجح أنه سيقع في ما وقع هو فيه لدى قراءة المتنبي، يتعثّر وتختلط عليه الأمور ويشعر أنه يتعلم لغة جديدة مع أنها لغته التي يعرفها. ولم يختر عشرين بيتاً بشكل منظم، فقط كان يتماهى مع تلك الأبيات التي توقف القلب أو تخبط الرأس.

* مدونة يوسف رخا الثقافية: sultansseal.com