ما إن يغادر محمد ملص مدينة القنيطرة حتى يعود إليها ثانية كمكان للذاكرة الأولى في المقام الأول، محاولاً تأثيثها على نحوٍ آخر بوصفه حارساً بصرياً لمسقط رأسه. كانت روايته «إعلانات عن مدينة كانت تعيش قبل الحرب» التي كتبها أثناء دراسته السينما في موسكو صورة لماكيت متخيّل عن المدينة المدمّرة، ثم أنجز فيلماً قصيراً بعنوان «القنيطرة 74»، وفيلماً آخر بعنوان «الذاكرة: محاولة غير تسجيلية للدخول إلى ذاكرة وداد ناصيف» (1975) الذي يمكن مشاهدته لغاية 16 شباط (فبراير) الحالي عبر منصّة «أفلامنا» الرقمية. هنا يؤرشف ذاكرة امرأة وحيدة، لم تغادر مدينة القنيطرة بعد تدميرها على يد الجيش الإسرائيلي بعد انسحابه منها، وكأنّ وداد ناصيف التي تعيش مع قططها ودجاجها تؤرّخ لسيرتها وفقاً للحروب المتعاقبة التي شهدتها منذ أن كانت طفلة وحتى دمار المدينة عام 1974 مروراً بالنزوحات التي خاضتها من حربٍ إلى حرب إلى أن استقرت في القنيطرة. ها هي في الشريط تمشّط شعرها، كأنما تمشّط ذاكرتها. ستنجو صورة الأم التي تطاردها في مناماتها، كما لو أنّها لم تغب، بعدما أهدتها طبقة صوتها. يقاطعها أحدهم في الإذاعة ببلاغة جوفاء، لكنها لا تكترث، تخاطب قططها ودجاجها كشركاء في وحدتها. تعبر الشوارع والأبنية المدمّرة، وتتذكّر أفلام غريتا غاربو، وحين تختلط الذكريات في رأسها، تقول «لا بطلّع بمراية ولا بعدّ الوقت»، امرأة عالقة في اللامكان، فيما تنهمك العدسة بتوثيق الخراب وحطام الأبنية بلقطات متتالية ومتوتّرة تشبه ذاكرة وداد ناصيف نفسها. يوضّح محمد ملص بأنّ مسقط الرأس له قيمة سحرية غامضة لا يمكن تفسيرها إطلاقاً، بحيث تبقى مُرافِقة له كأنها تشبه حبل السّرة الذي لم يُقطع ولن يُقطع. و«بالصدفة ولأسباب تَخصُّ عائلتي وُلِدت في مدينة القنيطرة التي كانت بالنسبة لي لحظات الضوء الأولى ولحظات الصور الأولى في الحياة». في هذا الشريط المؤثر، أراد صاحب «الليل» أن يؤكّد على أن تدمير المدينة بعد خروج جيش الاحتلال منها، كان فعلاً متعمداً، بقصد تدمير الذاكرة وليس تدمير الحجر. وتالياً فإن شهادة وداد ناصيف كانت نوعاً من مقاومة النسيان، فأن نتذكّر يعني بشكلٍ ما، أن نستعيد ما هو غائب بتمشيط الذاكرة مرّة تلو مرّة.
* يمكن مشاهدة فيلم «الذاكرة: محاولة غير تسجيلية للدخول إلى ذاكرة وداد ناصيف» على https://www.aflamuna.online/