روح البرليناله عادت إلى المدينة: الطرقات أُغلقت والشوارع المؤدية إلى قصر «مهرجان برلين السينمائي الدولي» لبست الأحمر. عاد الجمهور ولو بأعداد قليلة إلى السجادة الحمراء. هتف للنجوم وطلب التواقيع. الفارق الوحيد بين «مهرجان برلين» قبل كورونا وبعده، هو حاجز جديد قبل دخول الصالة: فحص الكورونا وشهادة اللّقاح. جميع الحاضرين في المهرجان والعاملين والجمهور مُجبرون على تقديم نتيجة سلبية كلّ يوم. فحص الكورونا إلزامي كلّ يوم، حتى قبل الفطور. نتيجة الفحص تظهر بعد 15 إلى عشرين دقيقة، وبعدها يمكن الدخول إلى العروض، لتتكرّر العملية نفسها في اليوم التالي. باصات ومراكز الفحص متوافرة على جميع الطرقات المؤدّية إلى الصالات وأمامها. أصبح فحص الكورونا أساسياً كالأفلام. الصالات تستقبل فقط 50% من قدرتها الاستيعابية، نصف المقاعد مهجورة، ما أدى إلى فقدان حميميّة صالات السينما، والإحساس بالغرابة في الجلوس في صالة، خصوصاً في مهرجان مثل «برلين»، من دون «ندماء» يحوطوننا من الجانبين. خيّم الحضور السياسي على الدورة الثانية والسبعين التي تستمرّ حتى 16 شباط (فبراير) الحالي. السياسيون تفوّقوا عدداً على النجوم. حضور تُرجم في الكلمة التي ألقتها وزيرة الثقافة الألمانية كلاوديا روت ويمكن اختصارها بجملتها «السينما بأي ثمن». المهرجان ناجح إلى الآن، والتنظيم ممتاز، رغم الكارثة التي حدثت خلال عرض الافتتاح. نتحدّث عن «بيتر فان كانت» لفرنسوا أوزون. في هذا الشريط، حاول المخرج الفرنسي إعادة الميلودراما الألمانية التي برع فيها رينر فيرنر فاسبندر. قدم شريطاً يشبه أفلام فاسبندر، لكنه تعثّر كثيراً، كما تعثر العرض الأول للفيلم. إذ توقف الشريط بعد 15 دقيقة من بدايته بسبب عطل تقني، ثم عاد واستمر، لكن من الدقيقة الخطأ، ثم بعدها توقّف وأُعيد إلى الوراء، من الدقيقة التي توقّف عندها للمرة الأولى، ثم مضى بشكل صحيح. في كل الأحوال، العروض مستمرّة، والترقّب على أشدّه للمفاجآت السارّة
«بحبّ واستماتة» للفرنسية كلير دوني


للوهلة الأولى، بدا فيلم فرنسوا أوزون كأنه هدية (مغشوشة). عاد المخرج الفرنسي الأكثر إنتاجاً في السينما الفرنسية إلى برلين بفيلم يكرّم فيه المخرج الألماني رينر فيرنر فاسبندر (1945 ــــ 1982). اقتبس أوزون شريطه «بيتر فان كانت» من فيلم «الدموع المرة لبيترا فون كانت» (1972). استخدمه كما استخدم صورة عيون فاسبندر في أول الفيلم. بعد ذلك، ابتعد عن كلّ شيء يتعلّق بما أراد فاسبندر إظهاره. لا يترك الفيلم أدنى شك في أنّ فاسبندر هو مَن يتحدّث عنه أوزون: صورة لفنان رقيق، يطوق للحب ولا يجده، ويتلاعب بالجميع للحصول عليه. يدور الفيلم حول السينمائي بيتر فون كانت (دوني مينوشيه في أداء عظيم)، فنان يحلم بالحب غير المشروط، لكنّه يعرف أنّه غير موجود. مع ذلك، يقع في حبّ الشاب العربي أمير بن سالم (خليل بن غربية). وبعد أشهر من الجنس والدولشي فيتا، لم يعد أمير هو العاشق، بل أصبح نجماً سينمائياً يهجر بيتر، ما يوقع المخرج في دوّامة من اليأس والحزن، لا مخرج منها. من المحتمل أن تكون قصة فاسبيندر الرومانسية الحقيقية مع الممثل غونتر كوفمان هي التي يعرضها أوزون هنا. افتراض سائد لأنّ فاسبيندر نفسه أسقط علاقاته المثلية على شخصيّاته النسائية في فيلم بيترا فون كانت.
كما هي الحال في الفيلم الأصلي، كل شيء يحدث في فيلم أورون مكان واحد، منزل بيتر. يأتي الجميع إلى بيتر إما يزور غرفة نومه أو مكتبه. والجميع يحتاج إليه، أولهم سيدون (إيزابيل ادجاني) صديقة بيتر الذي عرف كيف يحولها نجمةً سينمائيةً. «بيتر فان كانت» فيلم مفرط في كل شيء يقدّمه، حاول فيه أوزون اللّعب على الميلودراما التي خلقها فاسبيندر، لكنه فشل. أفلام أوزون رسمية جداً، لا تُشبه أفلام فاسبيندر. وهذا الفيلم بدا كأنه مزيف. أغرقنا أوزون في القبر والكلمات والدموع من دون نتيجة. أفلام أوزون كثيرة، لكنه يبدو هنا كأنه مخرج مبتدئ، لا يعرف أو لا يريد التقدّم. أوزون قدّم عملاً جديداً غير ناضج، ميلودرامياً صريحاً، حاول خلق علاقة بين أسلوبه السينمائي وأسلوب فاسبيندر، لكنه غاب عن باله أنّه لا يملك أسلوباً خاصاً به في الأصل، فخرج بفيلم يشبه الفن البلاستيكي، أجمل ما فيه أداء الممثل مينوشيه وعودة الممثلة الألمانية الكبيرة هانا شيغولا نجمة أفلام فاسبيندر.

«أراك يوم الجمعة، روبنسون» للايرانية ميترا فاراهاني


تحيّة إلى غودار
على الرغم من أنه لم يغادر منزله في رولي، في سويسرا منذ سنوات، إلّا أنّ المخرج الفرنسي الكبير جان لوك غودار (1930) يبدو كأنه بروسبيرو الساحر الذي تخيّله شكسبير في «العاصفة»، الذي يظهر من حين إلى آخر في أعجوبة جديدة. يظهر غودار في «مهرجان برلين» مرّتين، أولاً في معرض لفيلمه «كتاب الصور» (2018) وثانياً في فيلم المخرجة الإيرانية ميترا فاراهاني (1975) الذي يحمل عنوان «أراك يوم الجمعة، روبنسون». في فيلم فاراهاني، غودار ليس وحده، بل معه إبراهيم غلستان (1922)، أحد أهم المثقفين والمخرجين والكتّاب، وأحد روّاد الصناعة السينمائية في إيران. في أوائل الثمانينيات، حاول غودار وغلستان الالتقاء من دون جدوى. وقبل سنوات، حاولت ميترا فاراهاني صديقة الاثنين جمعهما، لكنّ الأمر انتهى بتبادل الرسائل الإلكترونية بين العملاقَين كلّ يوم جمعة. غلستان يرسل بريداً إلى غودار يوم الجمعة، وغودار يرد عليه يوم الجمعة من الأسبوع التالي. والنتيجة وثائقي يُظهر عبقرية الاثنين في فيلم مثير للقلق وللتناقض ومحفّز للأفكار. تصوّر ميترا، غلستان في قصره المهيب. يبدو المخرج البالغ 99 عاماً شديد الوضوح، يعرف ما يريد، ثم يضيع بعدها ويضيع في العبارات الغامضة التي يرسلها غودار إليه، إلى أن يجد الاثنان طريقتهما في التعبير. يصبحان صديقين بطريقة أو بأخرى، وكل منهما ينتظر رسالة الآخر الإلكترونية.
ما بدأ برسائل عادية، أصبح بعد ذلك شاشة عرض كبيرة تظهر عبقرية الاثنين وعمقهما الثقافي والسينمائي. الشريط مليء بتجارب الاثنين الأسلوبية: يبعث غلستان رسالة من كلمات، فيردّ غودار بمقاطع فيديو وصور واقتباسات. كل شيء يرسله الاثنان يصبح ذات قيمة فلسفية بسبب الأفكار الكثيرة التي يتشاركانها. تكلّم الاثنان عن كل شيء تقريباً، الفن والسينما والدين والثورات والسياسة. وللمرة الأولى، سمح غودار لشخص بتصويره في بيته بهذه الحميمية. «أراك الجمعة، روبنسون» صندوق كنز ثمين يُظهر عمق وفكر أحد أهمّ المخرجين العالميّين.

«ريميني» لأورليتش سيدل


«الهجّاء» أورليتش سيدل
نظرة المخرج النمساوي أورليتش سيدل (1952) إلى الإنسان وبؤسه، تجد بُعدها المثالي في المناخات المتطرفة، إما في الحرارة الشديدة مثل أفلام «ثلاثية الجنة»، أو في ضباب وشتاء ريميني كما هي الحال في فيلمه الجديد «ريميني». «ريميني» عاصمة المرح الصيفي، تبدو في الشتاء مهجورةً باستثناء بعض السكان والنازحين العرب والأفارقة والسيّاح البورجوازيّين المسنّين من النمسا وألمانيا. ريتشي برافو (مايكل توماس)، نجم بوب ناجح يُطارد شهرته الباهتة القديمة في ريميني الشتوية. يموّل أسلوب حياته المسرف وإدمانه على الكحول والقمار من خلال الحفلات الصغيرة الموجّهة للسيّاح والخدمات الجنسية لمعجبيه. يبدأ عالمه الصغير بالانهيار أكثر عندما تُظهر ابنته من جديد في حياته، لتطلب المال الذي لم يقدّمه لها خلال حياتها كلها. يجسد ريتشي برافو عالم سيدل المنحط بأكمله: معطف فرو ضخم وقميص مفتوح، وشعر أشقر مصبوغ، وشقة مليئة بالذكريات من سنوات المجد.
اللقاء بين جان لوك غودار وإبراهيم غلستان يتفرّع إلى أحاديث في السياسة والثورة والدين والفنّ

من جديد، يستخدم سيدل أكثر أدواته السينمائية التي يستخرج منها كل شيء يريده: اللقطة الثابتة، لا موسيقى خارجة عن الطبيعة، لا شيء يشتّت المشاهد عن أفعال الشخصيات وسخافة كل منها. هناك مشهد لكل موقف، لشخصيات وأجساد متعبة ولوجوه مرسومة الهزيمة على جبينها. لا مجال للعاطفة هنا، ولا حتى للانفعالات الدرامية. الطريقة الوحيدة لقراءة أفلام سيدل هي تفسيرها من منظور الهجاء. سيدل هو «ناقد اجتماعي» أو كما يسمّي نفسه «مصور اجتماعي إباحي». يُريد دوماً الاستهزاء بمفاهيمنا عن الذات والآخرين، وأفكارنا الغامضة عما يعنيه العيش خارج دولة الرفاهية، وتوقّعاتنا عن الكرامة في سن الشيخوخة أو ربما الكرامة على الإطلاق. كل مشهد في «ريميني» يضحك في وجوهنا، وفي حال كنا نأمل أن نجد تلميحاً من الحنان، كلمة مطمئنة، سيكون خطأنا الكبير كمشاهدين هو الاعتقاد بأنه يمكننا التعاطف مع شخصية مثيرة للشفقة مثل ريتشي، أو الانتظار من سيدل أن تكون له نظرة حنونة إلى الجنس البشري. أورليتش سيدل لديه مهارة سينمائية هجائية تُفسَّر في كثير من الاتجاهات، ودائماً ما تتخذ في أفلامه قرارات غير مفهومة لكن عظيمة.

«بيتر فان كانت» لفرنسوا أوزون


كلير دوني... ما وراء الأقنعة
على الرغم من أن «بحبّ واستماتة» صوِّر خلال الجائحة، وأنّ الممثلين يلبسون أقنعة الوجه رغم المسافات الآمنة، إلّا أنّ شخصيّاتها تتصادم بقوة. فيلم كلير دوني الجديد هو عن مثلث حب، عن الكذب والشجاعة التي يتطلّبها الاستسلام للغرام... هذا الشعور الجميل والمؤلم والخوف من الهجر الذي يمكن أن يكون عميقاً، إلى درجة أنّ المرء يفضّل المغادرة، قبل أن يتركه الآخر. أكثر من ذلك، هو فيلم عن الروابط الأسرية والعلاقات الاجتماعية، عن بيروت وانفجار الرابع من آب (هناك مشهد في أول الفيلم حيث تعرض دوني الانفجار بينما تتحدث امرأة لبنانية على الراديو عن الانفجار والأزمة الاقتصادية التي تحلّ في البلاد)، عن فرانز فانون والرجل الأبيض والعرب والسود. تتمتع سارة الصحافية الإذاعية (جولييت بينوش) وجان (فنسان ليندون) براحة مستحقة، يحصلان عليها لأنهما وحدهما. في الواقع، يبدو أنّه لم يتبقَ أحد على هذا الكوكب.
«بحبّ واستماتة» أجمل أفلام المسابقة لغاية الآن

في أول الفيلم، يبدو جسدهما في البحر، مجرّد بقعتين وسط هذه الضخامة الزرقاء، كآخر بقايا البشرية. تلقي المياه النقية الصافية الضوء على جسدين في وئام تام. لكن سرعان ما ينتهي المشهد وتنقلنا المخرجة الفرنسية إلى نفق يسير فيه القطار بأقصى سرعة. تنقلنا إلى باريس الشاسعة والمزدحمة، حيث الجائحة تهدّد الناس. في طريقها إلى وظيفتها في محطة إذاعية، تلتقي سارة بفرنسوا (غريغوار كولان) شريكها السابق، وصديق جان المقرّب منذ زمن بعيد. بسرعة عالية، تنهار علاقة الزوجين المتناغمة في مواجهة ظهور عنصر مزعج.
تغرقنا دوني في عكارة المتاهات الميلودرامية، حيث يفقد المرء رباطة جأشه بسهولة تامة. تفقد الكلمة المنطوقة قوّتها في الحوار وتصبح خليطاً من الثرثرة وأنصاف الحقائق والمراوغات. الجميع يريد أن يعبّر عمّا في داخله لكن الكلمات لا تُنطق، تجد الشخصيات كلها صعوبة في إنهاء جملها. يعمد «بحبّ واستماتة» إلى التكلّم إلى حد كبير بأصوات أناس يحاولون معالجة مشاعر معقدة جداً، حتى إنّهم لا يعرفون كيفية التعبير عن مشاعرهم ولا يبوحون بما في داخلهم بطريقة جيدة. من اللقطات المقرّبة إلى الوجوه طوال الوقت، تنتقل كاميرا دوني إلى التفاصيل، بدءاً من أيدي الممثلين، تلتقط تشنّجاتهم العصبية، وإيماءاتهم، وعلامات جروحهم. ليس هناك سوى الغيرة وعدم الثقة والانتظار. أجمل أفلام المسابقة إلى الآن يشنّجنا من اللحظة الأولى، يرعبنا، ولا يعطينا وقتاً للتنفس تحت أقنعة وجوهنا.