لا يمكننا الحديث عن الدراسات الجدية المتعلقة بالقضية الفلسطينية من دون أن نتذكر الجهود الكبيرة لـ «مؤسسة الدراسات الفلسطينية». يمكن القول إنّ وعينا النقدي بشأن فلسطين قد تشكّل، بهذه الدرجة أو تلك، عبر منشورات هذه المؤسسة الرائدة التي أنهت عامها الخمسين منذ تأسيسها عام 1963. تسعى ليندا طبر وعلاء العزة في دراستهما «المقاومة الشعبية الفلسطينيّة تحت الاحتلال: قراءة نقدية وتحليلية»، التي صدرت أخيراً ضمن سلسلة المؤسسة «القضية الفلسطينية: آفاق المستقبل»، إلى تسليط الضوء على مفهوم المقاومة الشعبية ضمن السياق التاريخي الفلسطيني وانتفاضيته، ضمن قراءة تحليلية اقتصرت على الأراضي المحتلة عام 1967، وصولاً إلى استشراف مستقبلي لإمكان إحياء مقاومة شعبية في فلسطين اليوم المقيَّدة باتفاقية أوسلو.
انطلاقاً من مفهوم «الجغرافيا الكولونيالية»، يؤكّد الكاتبان على أنّ دراستهما تقوم على نفي عملية التشظّي التي يمارسها الاحتلال الإسرائيلي بشكل منهجي ويومي، رغم اقتصار الدراسة على جزء واحد من الأرض الفلسطينية، بسبب الصعوبات التي تواجه الباحثين في الوصول إلى الداخل. هذه القضية بالغة الأهميّة، فالتشظي لا يقتصر على الأرض وحدها، بل يتعداها إلى جميع مجالات الحياة الفلسطينية؛ إذ يجري الحديث، تاريخياً وبحثياً، عن كل جزء كأنه أرض مستقلة لا باعتباره شطراً من أرض فلسطين التاريخية. هنا يتداخل مفهوم الجغرافيا الكولونيالية مع الكولونيالية الاستيطانية التي يؤكّد الباحثان أنها التوصيف الدقيق للواقع الاستعماري في فلسطين، حيث لا يكتفي الاحتلال الإسرائيلي بمنهجيّة «الإسكات»، كأيّ استعمار آخر، بل يقوم بالضرورة على «عملية التخلص من الشعب الأصلي... سواء بالتطهير العرقي المباشر، أو بعمليات التهجير بعيدة المدى». لذا، لا بد لأي مقاومة، إن كانت ترغب بأن تكون شعبية ووطنية، أن «تنقلب لا على السلطة السياسية الاستعمارية فحسب، بل أيضاً على مجمل بنية السيطرة الاستعمارية ومنتوجاتها البنيوية والثقافية». «رَدْكَلَة» المنظومة الفكريّة للمقاومة (إذا استعرنا مفهوم سلافوي جيجك) هي ما تُكسب المقاومة أهميتها بحيث لا يجب فصل التحرر الاجتماعي- الاقتصادي عن التحرر السياسي أو الوطني. ويشير الباحثان إلى أنّ الخطوة الاقتصادية الأولى للتحرر من الهيمنة الاستعمارية هي عبر التمييز الدقيق بين «الصمود الساكن» و«الصمود المقاوم»، والانتقال من الأول إلى الثاني الذي يسعى إلى كسر التبعية الاقتصادية والاجتماعية و«بناء قاعدة اقتصادية تؤمّن سبل العيش للناس»، بعيداً من منطق المنظمات المانحة والداعمين الخارجيين.

تشديد على
أهمية حملة مقاطعة اسرائيل وفعاليتها
وعبر استعراض تاريخي سريع لبذور المقاومة الشعبية الفلسطينية، يؤكّد الباحثان أنّ الانتفاضة الأولى (1987) هي أحد أهم مفاصل النضال الفلسطيني الجماعي. «كان واضحاً بأنّ الانتفاضة كمقاومة شعبيّة ليست مواجهة مباشرة مع جيش الاحتلال فقط، بل أيضاً عملية شمولية ذات أنماط مقاومة متعددة... كانت المقاومة المباشرة إحدى المهمات في منظومة مهمات وممارسات سميت انتفاضة». وبسبب هذا التداخل بين البنية التنظيمية والممارسة اليومية لفكرة المقاومة الشعبية والعمل المقاوم المباشر، أصبحت مهمة الاحتلال أصعب في كسر هذه الانتفاضة. يشير طبر والعزة إلى أنّ محاولات استعادة تلك الانتفاضة الكبرى أخفقت لأسباب عدة أهمها غياب الوعي السياسي النقدي الذي يتابع تغيرات كل تجربة، إضافة إلى أنّ تلك المحاولات «بقيت أسيرة معالجة تبعات المشروع الاستعماري المباشرة وليس بنية المشروع ذاته»، كما يحدث عند اللجوء إلى المحاكم الإسرائيلية للنظر في قضايا الجدار العازل، بحيث تكون النتيجة تغيير أو إبعاد مسار الجدار بدلاً من رفض منطق اللجوء إلى القضاء الاستعماري بذاته. بذلك، مع انطلاق الانتفاضة الثانية (2000)، بدأ الإدراك بأنّ هيمنة خطاب السلطة الفلسطينية الذي حوّل الانتفاضة الثانية إلى أداة لتحسين شروط التفاوض بعدما قضى على الانتفاضة الأولى عبر اتفاقيّة أوسلو هي السبب الأساسيّ في فشل إحياء المقاومة الشعبيّة.
وبذلك، أصبح الواقع الفلسطينيّ محصوراً بين خيارين: إما العسكرة أو «الأَوْسَلَة»؛ أي إما إخضاع الفلسطينيين لسياسة العمليات العسكرية والاستشهادية كغاية بحدّ ذاتها، أو سياسة أوسلو التي أصبحت قيداً آخر لا يقلّ وطأة عن القيد الإسرائيلي. تشير الدراسة إلى أنّ توجه حركة «حماس» إلى الانتخابات بهدف السلطة بعد إيقاف عملياتها العسكرية، وحصر الحديث الرسمي بشأن مستقبل فلسطين بيد السلطة الفلسطينية وسياسة المفاوضات، وانتشار منطق المنظمات غير الحكومية في أساليب الاحتجاج، لم تسهم في مقاومة المشروع الاستعماري، بل عملت على التعايش معه وفق منطق أوسلو.
لم يجد الباحثان مثالاً عن المقاومة الشعبية بعد الانتفاضة الثانية سوى تجربة مخيم جنين التي أعادت الاعتبار إلى مفهوم الإرادة الشعبية بفعل ارتباطها بحاضنة شعبية حولت المخيم إلى قاعدة نضالية عابرة للفصائل. كانت «عملية إعادة السيطرة على جنين، وإعمار المخيم، وعودة التنسيق الأمنيّ، هي المرحلة التي وُصفت بانتهاء الانتفاضة الثانية وبداية عملية قولبة الفلسطيني الجديد».
يؤكّد الباحثان أهمية تجربة رائدة ظهرت في السنوات القليلة الماضية، هي حملة مقاطعة اسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها. وتنبع أهميتها من استقلاليتها، واعتمادها على إطار فكري وسياسي واضح يتمثل في العودة إلى جذور الصراع مع الحركة الصهيونية، وتأكيدها أنّ الاستعمار الاستيطاني في فلسطين هو أساس حالة الاضطهاد، عدا نقطة شديدة الأهمية تتمثل في كسر شروط المنظمات الدولية التي تشترط وجود «شريك إسرائيلي»، وكسر حالة أوسلو عبر تحويل قيادة المقاومة من الحكومات إلى الشعب. أما بعد اندلاع الانتفاضات العربية، فتشير الدراسة إلى أنّ أهمّ نتيجة خرج بها الفلسطينيّون من «الربيع العربي» كانت إعادة تسييس المجتمع، أي «إعادة السياسة إلى الجمهور باعتباره ذاتاً فاعلة، لا موضوعاً للعمل السياسي».
ويختتم الباحثان دراستهما القيمة بالنقطة ذاتها التي بدأت بها، أي تأكيد أهميّة نسف مفهوم الجغرافيا الكولونيالية كشرط لازم وكاف للانطلاق بمشروع أي مقاومة شعبية في المستقبل، عبر ربط جميع أقسام الأرض المتشظيّة من خلال إعادة إشراك فلسطينيّي الداخل في أي رؤية سياسية جديدة. وبرغم التأكيد الجازم للباحثين أنّ إعادة بناء «منظمة التحرير الفلسطينية» هي أهم رؤية سياسية جديدة، ستكون بإمكاننا معارضتهما في ذلك أو الاتفاق معهما. المهم هو إشراك جميع الفلسطينيين في التفكير والتنفيذ، كمرحلة أولى لنسف «أوسلة فلسطين».