في تاريخ الرسم، كانت الصورة، دائماً، هي التي تشكل محور الحكاية. وفي عصرنا الحاضر، ما زال المشاهد يقف أمام اللوحة ويبحث عن تلك الصورة لتدلّه على المعنى، رغم أن الرسم قد غادر مفهوم «اللوحة الحكاية» أو «السردية»، منذ بداية القرن الماضي. ومع انتهاء الحرب العالمية الأولى، بدأ الفن بممارسة دور جديد على يد الدادئيين، الذين جاؤوا بمفهوم «الفن ضد الفن»، ومحاربة فكرة الجمال في الفن. بدأوا أيضاً باستخدام جديد للمواد في إنتاج أعمال فنية طليعية، ومنها تطوير مفهوم فن الكولاج (فن التلصيق) الذي استخدمه قبلهم فنانو المدرسة التكعيبية (جورج براك وبيكاسو)، لكنه كان استخداماً محدوداً، لأن موضوعة أعمالهم، في الأغلب، كانت طبيعة صامتة. لكن عند الدادئيين، أخذ فن الكولاج، شكلاً آخر: ظهرت بعض الأعمال الفنية في تلك الفترة، التي كانت تعتمد على هذه التقنية بشكل كامل، وظهرت أيضاً اللوحة التي تعتمد على أصل فوتوغرافي. فالصورة صارت مجموعة صور مقطعة، وفي أحيان كثيرة كانت أجزاءً من صورة، وعلينا تخيّل الجزء المفقود منها.




إنّ أي متتبع لمسيرة الفنان المغربي بشير آمال (1954)، يرى تلك المسألة بوضوح ـــ اللوحة الكولاج ـــ التي تروي حكاية ناقصة، (جزء من صورة وحرف أو مجموعة حروف وأرقام ورموز). إنّ بشير يروي لنا حكايات غير مكتملة، وعلى المشاهد أن يكملها. المشاهد يكمل الصورة بالحدس أو التخييل بوصفه شريكاً في العمل الفني. إنّ لوحات آمال بشير هي مشهد مقتطع من الحياة اليومية، تحديداً حياة المدينة الصاخبة، وما تتركه من أثر في عين الفنان. إنّ المَشاهد التي تتداخل فيها الصور الكثيرة، صورة تمحو صورة، وعبارة تمحو الأخرى، يعبّر عنها بشير في أعماله بتراكم طبقات اللّون بطريقة شفّافة. وفي مكان آخر من اللوحة، نشاهد رموزاً من الزمن الحاضر (محرك طائرة)، حيث أصبح للزمن معنى آخر. لا وقت للتأمل، الزمن الذي نعيشه هو زمن السرعة، زمن السوشال ميديا حيث الصورة تشكل ركيزة فاعلة في هذه الثقافة. ربما يكون الحنين لزمن آخر قديم، هو الذي يدفع بشير إلى البحث في الماضي المجيد، عن زمن الإمبراطوريات العربية والإسلامية العظيمة، في دمشق وبغداد والأندلس. نشاهد صوراً من عصر مقامات الحريري، وأخرى من عصر المتصوفة العارفين، الذين كانوا يردّدون ويكرّرون في سرّهم العبارة حتى تسكن الروح والقلب (صورة القلب تتكرّر في أعمال بشير). يستخدم بشير بقايا الأشياء المهملة (قطعة من ورق التقطها من الأرض، صورة ممزّقة من كتاب اشتراه من بائع كتب على الرصيف). إنّه كمن يُعيد إنتاج الجمال، مرة بتقنية اللصق ومرة بالطباعة بالشاشة الحريرية على قماشة اللوحة مباشرةً، كما كان يفعل الأميركي روبرت روشنبيرغ في نهاية خمسينيات القرن الماضي، حين كان يصنع لوحاته من خلال تجميع صور عدة أو مواد مختلفة من الأشياء التي نستخدمها في حياتنا اليومية، لتوصيل رسالة للمشاهد، تكون صادمة في بعض الأحيان، ولكنها مهمة لأنها توثّق حقبة زمنية معينة، أو تُشير إلى موقف الفنان تجاه مجتمعه.
نشاهد صوراً من عصر مقامات الحريري، وأخرى من عصر المتصوّفة العارفين


لم يتخلَّ بشير عن اللون، رغم إغراء الملمس والصور والحروف والرموز. هو يستخدم اللون كعنصر فاعل في بعض الأحيان (اللون الأحمر)، يمنح العمل الفني طاقة مؤثرة مرتبطة أحياناً بصور الماضي، وأحياناً أخرى لغرض جمالي مكَمِّل، وضروري لإظهار مفردات العمل. وفي أعمال كثيرة أخرى، نشاهد حيادية اللون (الرمادي بتدرجاته من الأسود أو من الأبيض) أو ألوان التربة (الأُوكر). إنّ للأثر الغرافيكي في لوحة بشير آمال، هيمنةً واضحةً تخبرنا عن ولع الفنان بفن الحفر والطباعة، مكّنته أيضاً من التحكّم الدقيق في تصميم العمل وضبط حوافّه ونهاياته.