«يجب أن نعيش حياتنا. نعم، سنعيش، خالي فانيا. سنعيش في موكب الأيام الطويلة التي سبقتنا. وخلال الأمسيات الطويلة، سوف نتحمل بصبر التجارب التي يفرضها علينا القدر؛ سنعمل مع الآخرين من دون راحة، سواء الآن أو عندما نتقدم في السن. وعندما تأتي ساعتنا، سنلتقي بها بتواضع مستسلمين. وهناك، بعد القبر نقول إنّنا تألمنا وبكينا، وأن حياتنا كانت مريرة، وسوف يرحمنا الله. وقتها، يا خالي العزيز، سنرى الحياة المشرقة والجميلة؛ سنبتهج وننظر إلى الوراء على حزننا هنا... وسنرتاح». بمونولوج سونيا من مسرحية «الخال فانيا» (1898) لتيشخوف، ينتهي فيلم «قودي سيارتي» (2021 ـــــــ Drive my car) للمخرج الياباني ريوسوكي هاموغوتشي (1978). النص لا نسمعه، بل نقرأه على شاشة على خشبة المسرح بينما سونيا تقوله بلغة الإشارة. لغة نقلت ثقل هذه الكلمات علينا، وعلى الخال فانيا بينما تدمع عيناه وأعيننا. «قودي سيارتي» هو فيلم من كلمات: كلمات مكتوبة في نص، كلمات تُقرأ على شاشة، كلمات تنطق بالإشارات... كلمات تستخدم لابتكار قصص والاعتراف بالصدمات والأخطاء وإيجاد الذات. «قودي سيارتي» فيلم في رحلة سيارة لا نهاية لها، تحفر داخل روح الأبطال بكلمات قادرة على تفكيك وتحليل مدى إرهاق مخرج مسرحي عالق في ماضٍ لا يستطيع التعامل معه، وسائقة تقود فقط. الشخصيات والكلمات روح فيلم هاموغوتشي، من خلالهما يعكس الياباني قوة اللّغة وقدرتها على تجاوز حدود الواقع، وماهية الحب وصعوبة التواصل مع الآخرين، والانفتاح وقبول الخيارات التي تمّ اتّخاذها في الماضي. في «قودي سيارتي»، تُستخدم الكلمات قبل أي شيء كنهر نقي للبنية الإيقاعية للفيلم بينما يتدفّق الصوت الذي يُصبح سجادة خشنة للصور.

يوسوكي (هيدتوشي نشيما) ممثل ومخرج مسرحي، وأوتو (ريكا كيريشيما) كاتبة سيناريو. تزوّجا قبل أكثر من عشرين عاماً، علاقتهما يطاردها ماضيهما. عناقهما بارد، قبلاتهما بلا عاطفة ويمارسان الجنس فقط للبحث عن قصص تنساها أوتو في الصباح ويتذكرها يوسوكي. حبهما يشتعل لأسباب خاطئة ويستند إلى ذكريات بعيدة. لم يكن لدى يوسوكي الشجاعة لمواجهة زوجته التي تخونه، ربما خوفاً من انفجار فقاعة لا يستطيع الخروج منها ولا يريد ذلك. تستمر العلاقة حتى تصاب أوتو بنزيف في الدماغ، وتموت بمفردها في منزلها، بينما يقضي يوسوكي أيامه في الخارج لأنه يخشى المواجهة المحتملة لقصتهما... مواجهة لن تأتي أبداً.
مضى عامان ولم ينجح يوسوكي بالتغلّب على ماضيه وفقدان زوجته. في محاولة لتغيير حياته، يوافق على اقتراح من مهرجان هيروشيما بإخراج وتأدية دور الخال فانيا في مسرحية تشيخوف. في سيارة «صعب 900 توربو»، حمراء ينطلق صوب هذه المغامرة. في هيروشيما، يطلب الإقامة بعيداً عن المسرح لأنه يحب القيادة ومراجعة النصوص بصوت عالٍ من خلال الأشرطة التي سجّلتها زوجته. لكن إدارة المسرح تلزمه بموجب القانون أن يكون له سائق. سائقته الجديدة تدعى ميساكي (توكو مييورا)، شابة لا تتحدث كثيراً وتركز فقط على القيادة. في هيروشيما، ماضي يوسوكي يبقى يلاحقه، ليس فقط من خلال الذكريات أو صوت زوجته في المسجلة، ولكن أيضاً في أشخاص يدخلون حياته من دون استئذان. ماضي يوسوكي حتى قبل وفاة زوجته ثقيل جداً عليه، كذلك ماضي ميساكي. رحلة تلو أخرى، سيتمكن الاثنان من التحدّث وتدمير الجدران التي أقاماها طوال حياتهما، وسيسمحان للكلمات أن تتدفّق، وللأسرار أن تعلن، وللثقة أن تظهر بغية بناء علاقة يمكن أن تغيرهما إلى الأبد.
تُستخدم الكلمات كنهر نقيّ للبنية الإيقاعية للفيلم بينما يتدفّق الصوت الذي يصبح سجادة خشنة للصور


ريوسوكي هاموغوتشي أحد أهم المخرجين وكتاب السيناريو اليابانيّين وأكثرهم شهرة في أوروبا (عضو لجنة تحكيم «مهرجان برلين» 2022)، ولو كرّس حياته للسينما بالكامل قبل بضع سنوات فقط. بعد سنوات عديدة في الأفلام الوثائقية، أخرج في السابعة والثلاثين من عمره، باكورته الروائية الطوئلة «شغف» (2008). وفي عام 2015، أخرج فيلمه الثاني «ساعات سعيدة» (مدّته خمس ساعات) من دون ممثّلين محترفين. وها هو يعود العام الماضي بفيلمَين عرضا دقّة الإخراج والعمق المذهل لسيناريواته: الأول «عجلة الحظ والفانتازيا» (دب برلين الفضي) والثاني «قودي سيارتي» (أفضل سيناريو في «مهرجان كانّ» وأفضل فيلم في جوائز «الغولدن غلوب»، ويتوقّع له أن يكتسح جوائز الأوسكار في 27 آذار/ مارس المقبل).


يعكس «قودي سيارتي» بشكل مثالي شاعرية مخرجه الخاصة. البنية الدّاعمة للسرد ليست الحبكة، بل الشخصيّات التي تدور حولها والعلاقات التي تخلقها في ما بينها. يكتب هاماغوتشي قصصاً بسيطة بحيث يترك مساحة واسعة لتعميق المواضيع التي ينوي التعامل معها من خلال الكلمات والحوارات. الفيلم الذي شارك في كتابته مع تاكاماسا أوي، مستوحى من قصّة للكاتب الياباني هاروكي موراكامي واردة في مجموعة «رجال بلا نساء» (2014). أخذ هاماغوتشي قصّة موراكامي ومزجها بأفكاره وأضاف إليها مسرح تشيخوف ومسرح صامويل بيكيت، خصوصاً «في انتظار غودو». هنا يُطلق المخرج لعبة التأمّلات والحوارات ليس فقط بين يوسوكي وميساكي، ولكن أيضاً بين الممثّلين الذين يشاركون في المسرحية التي يتحدّث كلّ منهم لغته الخاصة (اليابانية، الصينية، الفيليبينية، الماندارين، الألمانية، لغة الإشارة). بين رحلة السيارة ورحلات الممثّلين ومكان التدريب والمسرح، تفتح الشخصيّات على بعضها بعضاً. على امتداد الفيلم، تصبح الكلمات أكثر ثقلاً وإيقاع الصمت أكثر رعباً، كما أنّ ثلج هيروشيما يكتم كلّ صوت في وجه أنقاض الماضي.
في هذا الفيلم، يصقل هاماغوتشي أسلوبه المعتاد والأنيق المكوّن من مشاهد ثابتة طويلة ولقطات مقرّبة على الوجه، ويتخلّى عن النغمة الساخرة التي طبعت أعماله السابقة. يدخل في ألم وأوهام مجموعة من الشخصيات التي تجد حياتها في المواجهة والانفتاح. المسرح، وغرفة التّدريب والسيارة هي المواقع المثالية حيث تجد الشخصيّات ملاذاً، سواء في قراءة نص تشيخوف أو في المواجهة أو في العزلة الوقائية لأفكارها.

على مدى ثلاث ساعات عاطفية، ننغمس في عزلة كل نظرة، نُعيد التثقّف بالحياة، نتعلم الاستماع، نظل أمام الشاشة مرتبطين بكلمة أو فكرة، ومن بعدها، ندرك أننا كنا أمام تحفة سينمائية لم نرَ مثلها منذ سنوات طويلة. التكرار الهوسي لنص تشيخوف في شريط زوجة يوسوكي التي يُسمع طوال رحلات السيارة، وطاولة القراءة في تدريبات المسرحية، أجبرت الممثلين على التخلص من أي عاطفة تجاه هذه الكلمات. قام هاماغوتشي بإفراغ متعمّد لمعنى الكلمات، بينما كلّ كلمة منطوقة بعيداً عن المسرحية بين الشخصيات تثقل كاهلها، كلمات لا تخرج بالسهل، كأنّ إخراج القلب أسهل من إخراج أي كلمة.
ينقسم الفيلم إلى أربع مراحل متداخلة: حياة يوسوكي مع زوجته حتى وفاتها، الخال فانيا والمسرحية، رحلات يوسوكي وميساكي في السيارة، والحقيقة. تهدف هذه المراحل المتداخلة إلى تحديد المراحل العاطفية لبطل الرواية والشخصيات. وتيرة الفيلم بطيئة جداً، وغالباً ما يسيطر النص على الكاميرا، وقبل أي شيء هناك لحظات صمت تلتقط المشاعر وتؤطّر العنصر الرمزي للقصة، تقاطعات الطرق مثل تقاطعات الوجود، مع كلّ وقفة في السيارة ولحظة صمت يبدأ طريق وجودي جديد.
مشاهد ثابتة طويلة ولقطات مقرّبة على الوجه، وتخلّي عن النغمة الساخرة التي طبعت أعماله السابقة


يتكيّف هاماغوتشي مع قصّة موراكامي ويكملها ويُعيد تركيبها ويتعمّق بها أكثر. صور الكلمات التي لم يكتبها موراكامي، نصّت بنقل الأفكار والمفاهيم وأيضاً المشاعر. هاماغوتشي مثالي لنقل موراكامي إلى السينما، لأنهما يعملان على مواضيع مشابهة. ينجح الفيلم أن يكون جميلاً ومؤلماً في آن، مسالماً في شكله ولكنه مضطرب في القصص التي يرويها وفي الأحاسيس التي تمر بها شخصياته. من خلال الفيلم، نكتشف كيفيّة تكوين هذا الشيء المسمّى بالحب من خلال الذاكرة والشعور بالذنب واستحالة الغفران والفن والمسرح والتمثيل والحياة. كلّ هذه الكلمات وحدها تبدو هائلة، لكن لا يمكن الاستهانة بقدرة السينما على احتوائها كلّها. السينما فن البطء والجمال والكلمة.


تمكن هاماغوتشي بذكاء ومهارة وتحايل، من الوصول إلى أعماق الأشياء بدون أن يشعرنا بذلك. فجأة نجد أنفسنا في جوهر شيء معين. أخذنا من دون دراية إلى ثلج هيروشيما وفجأة تُصبح هي الفيلم كلّه باعتبارها جغرافيا المعاناة والإنسانية والدّمار التي تتجدّد من خلال ذاكرتها، لكنّها تركّز على المستقبل. «قودي سيارتي» فيلم استثنائي، السيارة تصبح المكان المثالي للاعتبارات اللانهائية والثمينة. يلتقط الطريق المضاء ليلاً وهج الأشباح، فالسينما هي مملكة الأشباح المتعبة والوحيدة. ثلاث ساعات هزّ هاماغوتشي فيها شبكة أعيننا بفيلم جميل إلى درجة لا تُطاق أحياناً. لا مجال للهرب مع هاماغوتشي، حتى يوسوكي الذي يهرب من الذاكرة إلى العمل ويحاول عدم البكاء، يجد قطرات دواء عينيه المتعبتين تبكي بدلاً عنه. يقول يوسوكي: «أحياناً أنسى أنني في السيارة». وفي بعض الأحيان، ننسى أننا نشاهد فيلماً، لأنه يفتح أمام أعيننا بشكل غير عادي مثل الحياة. يُشبه تماماً عندما فتح يوسوكي وميساكي فتحة سقف السيارة أثناء القيادة في الليل، ورفعا أيديهم ممسكين بالسجائر واستمتعوا باللحظة من دون أن ينبسوا ببنت شفة، مدركين بشكل فردي أنهما بحاجة لمواصلة القيادة والعيش.