لطالما ألهمت المافيا الإيطاليّة مخيّلة صنّاع الأفلام ومنتجي التلفزيون: آل كابوني، سلفاتوري جوليانو، لاكي لوتشيانو، سيرو دي مارزيو، روبرتو سافيانو، دون فيتو، مايكل كورليوني، وتوني سوبرانو هم بعض الشخصيات التاريخية والخيالية التي نقلت أسطورة المافيا الإيطالية – كما نسختها الإيطالية/ الأميركية – إلى قلب الثقافة الشعبيّة الأميركية ذات التأثير المعولم، ورسمت صورتها في أذهان الملايين: عندما تُغلق أبواب الترقي الاجتماعي أمام المهمّشين (مهاجرون وفقراء وطبقة وسطى بلا أمل وسكان الأطراف)، ثمّة مسار موازٍ للنجاة يستبدل العالم الحقيقي بنظام عائلة أبويّ صارم حيث السلطة والعدالة تنبعان من العرّاب، والجريمة قطاع اقتصادي مكمّل للنظام الرأسمالي. أما الأشرار الوحيدون، فهم الخونة لـ «العائلة». إنّه مسار أشبه بأفيون شعوب لنسيان الواقع القاسي... زفرة المهمّشين في عالم لا قلب له. «العرّاب» الفيلم بأجزائه الثلاثة (1972و1974 و1991) ــــ المأخوذ عن رواية بالاسم نفسه للأميركي الإيطالي ماريو بوزو نُشرت في عام 1969 وحققت نجاحاً تجاريّاً لافتاً ـــــ كان مفصلاً تغيّرت معه صورة المافيا، وفئة الأفلام المعنيّة بها، كما صيغة الفيلم ذاتها بحيث يمكن الزّعم بأن ما بعد «العراب» لا يشبه ما قبله في هذا الفضاء المفعم بغموض السحر.
لعل سرّ ذلك يعود إلى أنّه كان أول منتج هوليوودي عن المافيا ينجزه أميركيّون إيطاليّون من أبناء المهاجرين الأوائل الذين حطوا رحالهم في العالم «الجديد» مع بدايات القرن العشرين، فيما كانت معظم الأفلام السابقة من إخراج وبطولة يهود أميركيين، وقدّمت ــ بشكل عام ـ صورة سلبيّة عن شخصية المهاجر الإيطالي كإنسان فظّ ومجرم شرير أو جاهل ساذج لا يُرتجى منه. لكن بعدما وصلت «العرّاب» الرواية إلى يد روبرت إيفانز (منتج سينمائي ومدير تنفيذي أميركي معروف في هوليوود السبعينيات)، وجد إجابةً ـــ في الثانية صباحاً كما يروي ـــ عن سؤال طالما أرّقه: لم لا تنجح الأفلام عن المافيا في الخروج من شرنقة الجمهور المحدود؟ لقد ألهمه «عرّاب» بوزو بأن يقدّم للسينما «فيلماً إيطالياً إثنياً حتى النخاع، إلى درجة أنه يمكنك شمّ رائحة السباغيتي». لم ينم إيفانز ليلتها. اتصل في السادسة صباحاً بستانلي جافي، نائب الرئيس التنفيذي لشركة «باراماونت» ليخبره بأن «العراب» يجب أن يسند إخراجه وتمثيله إلى إيطاليين أميركيين، ليكون ناجحاً. كانت هناك عقبة وحيدة: «لم يكن هناك مخرجون إيطاليون-أميركيون لديهم مصداقية لتسلّم إنتاج كبير»... إلى أن اقترح أحدهم فرانسيس فورد كوبولا.
المخرج الإيطالي الأميركي كان وقتها في الثلاثين، ربّ عائلة من زوجة وثلاثة أطفال، كما يليق بشاب إيطالي تقليدي. مثقف كبير متحمّس للثقافة الإثنيّة للعائلة الإيطاليّة، ملتحٍ، طويل الشعر يرتدي ثياباً تجعله يبدو أشبه بفيديل كاسترو، شارك لتوّه في كتابة سيناريو فيلم «باتون» (سيفوز تالياً بجائزة الأوسكار) وغادر هوليوود بعده بتحدّ لبدء شركته الخاصة لإنتاج الأفلام في سان فرانسيسكو، رغم أنّه عملياً كان مفلساً. أمّا الباقي، فهو تاريخ لكيفيّة صنع التاريخ في عالم السينما.

آل باتشينو في العمل

خلال تصوير «العرّاب»، نظّمت «رابطة الحقوق المدنية الإيطالية الأميركية» احتجاجات، لأنها شعرت أنّ فيلم «باراماونت» سيعزّز الصورة النمطية لهوليوود عن الإيطاليين كغوغاء ومجرمين، إذ إن ثلاثة أرباع الأميركيين كانوا يصدّقون تلك الصورة الهوليوودية عن مواطنيهم الطليان، مع أن الأرقام الرسميّة لـ «مكتب التحقيقات الفيدرالي» تسجّل أن أقل من 1% فقط من هؤلاء لديهم ارتباطات جرميّة. لكنّ الغالبية العظمى من الأميركيين الإيطاليين أحبّت الفيلم عند عرضه. لقد قدّمهم للمرة الأولى بكل تفاصيلهم وإيماءاتهم، وطريقة لبسهم وعلاقاتهم وغرامياتهم، وإن كمافيوزيين لكن في قالب شخصيّات إنسانيّة عميقة نابضة بالحياة، والحبّ، والولاء للتقاليد الأسريّة العريقة في إيطاليا الأمّ. الأهم ربّما كانت قدرة الثنائي بوزو/ كوبولا على جعلنا نتعاطف – لا بل نعجب - بشخصيّات يفترض أساساً أنّها شريرة ومجرمة. تدور الثلاثيّة حول المافيوزي المحترف دون فيتو كورليوني (لعب دوره باقتدار تاريخيّ مارلون براندو) وسيرته وعائلته. هو لا يفعل شيئاً طوال الفيلم يمكننا أن ندينه لأجله حقاً، ولا نرى ضحيّة فعلية واحدة للجريمة المنظمة ــ خارج إطار التصفيات الداخليّة ــ، فلا نساء محاصرات كرقيق أبيض في مواخير الدعارة، ولا حيوات محطّمة بالمقامرة، ولا ضحايا للسرقة أو الاحتيال أو خوّة الحماية. وحتى ضابط الشرطة الوحيد الذي يحتلّ دوراً هاماً في الثلاثيّة فاسد وحقير. أمّا الوصية الوحيدة التي يقدّمها مايكل كورليوني، خليفة دون فيتو وابنه الأصغر (يلعب الدّور آل باتشينو)، فهي «لا تنحاز أبداً ضد العائلة».
صادف «العراب» أيضاً هوى في قلوب كثير من المهاجرين إلى الولايات المتحدة، ولا سيّما الإيرلنديّين ويهود أوروبا الشرقيّة. وجدوا فيه أرضيّة مشتركة مع نظرائهم الإيطاليين في سعي الآتين من جحيم أوروبا لبناء حياة جديدة لهم وراء سراب الحلم الأميركي والتعامل مع قسوة النظام الرأسمالي الذي لا يرحم. أيضاً، فإن الثلاثية مسّت وتراً لدى الأميركيين الذين كانوا يعيشون إحباطات متقاطعة، وانعداماً لليقين على المستوى الاجتماعي بسبب حرب فيتنام وفضيحة «ووتر غيت» وثورات الطلاب وموجة تحرر النساء. وجدوا في «العرّاب» نوستالجيا خاصّة دغدغت مشاعر المجتمع الأبوي الذكوري الأبيض المتلاشي، وشعوره بعدم اليقين في عالم متغير بسرعة. دون كورليوني، أعطاهم رجلاً من يقين، إلى درجة أنه صنع قوانينه الخاصة وطبّقها بيديه غير عابئ بالمجتمع، مع إهمال شبه كليّ لوجود النساء، خارج دائرة التشييء والاستعمال. أما الجمهور العريض عبر العالم، فهو لسبب ما مولع بالغوص في دواخل شخصيات الأشرار ومفتتن بها يتماهى مع قدرتها على كسر القوانين والتمرّد في أجواء الخيال، قبل العودة بأمان إلى الواقع اليومي. وهذا قد يفسّر جزئيّاً على الأقل شعبيّة «العرّاب»، كما الأعمال اللاحقة التي حقّقت نجاحات هائلة مثل «سوبرانو» و«بريكينغ باد».
اعتبر كثيرون - ومنهم مارلون براندو – فيلم «العرّاب» أنه «نقد لرأسمالية الشركات الأميركيّة». ولكن كوبولا في الحقيقة يذهب أبعد من ذلك ليصفه بـ «الرأسمالية في أنقى صورها». فليس مشروع دون كورليوني نقيضاً للرأسمالية، أو بديلاً إيديولوجياً لها، لأن منظومة احتكاراته الراسخة، وتسلسله الهرمي الأسري، ونفوذه الفاسد على القضاة والسياسيين وحروب المنافسة غير الخاضعة للرقابة بين الكيانات الخاصّة وتشكيلها الكارتيلات أحياناً... تجعله نموذجاً تاماً لشركة أميركية ناجحة. ويبدو أن الاختلاف الوحيد الواضح بين المافيا ومجلس إدارة شركة أميركية كبرى هو اختلاف في الوسائل، وليس قطعاً في الإيديولوجيا. حتى عندما تنتقل مقاليد الخلافة إلى مايكل – حيث دائماً الولاء مقدّم على الكفاءة - فإن خلاصة «العرّاب» تنتهي إلى أنّك «لتكسب في أميركا، ستفقد روحك». والروح هنا ليست شيئاً غامضاً: إنها التقاليد والثقافة والطريقة التي نرى بها العالم ونحدد الأولويات والأهم من ذلك، العائلة.
لكن بعيداً عن المضمون السياسي – الفكري، فإن كوبولا قدّم في ثلاثيّة «العرّاب» (رغم أن بعضهم يقلّل من أهميّة الجزء الثالث مقارنةً بالجزءين الأولين ويعدونه ثرثرة لاحقة غير لازمة حول فيلم مكتمل فعلاً) تحفة سينمائيّة بكل المقاييس الفنيّة. أصبحت أنموذجاً رائداً لـ «الفرانشايز» في السينما الأميركيّة، ونجحت في غزو قلوب الجماهير وعقول النقّاد معاً، ونقلت كوبولا نفسه من كاتب سيناريو معدم إلى مليونير وأستاذ سينما على مستوى ألفريد هيتشكوك ومارتن سيركوزي، رغم أنّه – وهو في الثانية والثمانين اليوم – يكتفي بالقول بأنّه أفضل مخرج من الدرجة الثانية بعد هؤلاء الكبار.
استعان كوبولا بعدد من أصحاب الوجوه الإيطاليّة التي لا تُنسى لتقديم أبطال «العرّاب» أمثال آل باتشينو، روبرت دوفال، ديان كيتون، تاليا شيري، جيمس كان... وبالطبع مارلون براندو المذهل، الذي أصرّ على أن يُسند إليه دور دون فيتو رغم صغر سنّه النسبي، إذ كان عندها براندو في الأربعينيات. قدّم كوبولا شخصيات العمل كلّها تقريباً خلال مشهد حفل زفاف ابنة دون فيتو الأشبه بمهرجان إيطالي تقليدي على خشبه مسرح نعرف خلاله المعالم الأساسية عن شخصياتهم، فيغرقنا فوراً في عالم «العرّاب». مذهل بحق.
تمضي أفلام «العراب» بوتيرة رائقة تسمح بالتعرف إلى الشخصيات بشكل معمّق. حتى إنّ أحد زعماء عائلة غامبينو المافيوية الحقيقية، قال بعد خروجه من صالة السينما: «لقد تركت الفيلم وقد اجتاحني الذهول... أعني أنني ربما خرجت من مسرح ربما كان خيالاً بالنسبة إلى كثيرين، لكن بالنسبة إليّ، وإلى كثيرين من الرجال الذين أعرفهم، كانت تلك حياتنا».
استحالت الرواية والثلاثية ككتاب مقدّس عصري حول ديناميكيات القوّة داخل العائلات السياسيّة والمنظمات مثل «الأمير» لمكيافيللي


التصوير السينمائي للثلاثيّة تغلب عليه الأجواء المظلمة والحزن، مع قدرة هائلة على التقاط التفاصيل الإيطاليّة الصغيرة سواء في أداء الممثلين وحركتهم وملابسهم وتعابير ووجوههم أو من خلال التحكم بمزاجنا من خلال الموسيقى التصويرة الساحرة والمعجونة بالحنين للبلاد والزمن الأفضل التي نفّذها نينو روتا ملحن العديد من أفلام فيلليني. وكان كوبولا قد سافر خصيصاً إلى إيطاليا لإقناعه بالمشاركة في مشروع «العرّاب».
ترك «العرّاب» تأثيراً لا يتبدّد على الثقافة الشعبيّة كما السياسة واللغة والموسيقى والأدب. أصبحت الرواية والثلاثية معاً ككتاب مقدّس عصري حول ديناميكيات القوّة داخل العائلات السياسيّة والمنظمات على نحو «الأمير» لمكيافيللي العصور الوسطى. وقد بلغ هذا الاستخدام لـ «العراب» كدليل سياسي، ذروته في عام 2009، عندما نشر اثنان من محللي السياسة الخارجية الأميركية (جون سي هولسمان ووس ميتشل) كتاباً قصيراً بعنوان «عقيدة العراب»، فسّرا فيه كثيراً من التقلبات في السياسة الأميركية في القرن الحادي والعشرين بأمثولات من منجز بوزو/ كوبولا. ولا شكّ في أن تلك المقاربة ممكنة بشكل أفضل في تفكيك طرائق عمل السلالات العربيّة الحاكمة: التمسّك بالسلطة، وتأليه الذات، والأدوات الرمزيّة للهيمنة غير المحسوسة والذكوريّة المفرطة، والقسوة ضد المعارضين، وكل من يخرج عن طوع السلالة، وأجواء التآمر وصراعات الخلافة وبناء الهياكل القائمة حصراً على الولاء من دون الكفاءة وتقزيم الرجال المحيطين بالسلالة إلى أطفال.

اعتبره كوبولا «الرأسمالية في أنقى صورها»، فمشروع دون كورليوني ليس نقيضاً لها


اسم «العرّاب» نفسه كان من ابتداع بوزو. وقد أصبحت بعض التعابير في حوارات الفيلم جزءاً ليس من ثقافة الناس العاديين والصحف، بل أيضاً من لغة المافيات والسياسيين ورجال الاستخبارات والمفاوضين مثل «سأقدّم له عرضاً لا يمكنه رفضه»، أو «أخبره أنني طالما أعجبت به، ولكنّ الأمر يتعلّق حصراً بالأعمال»، «في يوم من الأيام، وهذا اليوم قد لا يأتي أبداً، قد أطلب منك معروفاً» وغيرها الكثير.
خمسة عقود طويلة مضت منذ منحنا فرانسيس فورد كوبولا واحداً من أعظم أعمال السينما في كل العصور، لا يستكمل أحدنا فهمه للسياسة، أو السلطة أو المافيا أو الرأسماليّة أو البطريركيّات من دونه، وها دون فيتو كورليوني ما زال يتربّع على قمّة هرم السلطة المافيويّة كما كان في عام 1972. إنّه «الدون» الأبديّ.