شكّل غياب بسّام الملّا، أول من أمس، صدمة للوسط الفني السوري، بعد صراع مع المرض العضال. غياب أعاد إلى الذهن شريطاً طويلاً من الأعمال التلفزيونية التي وقّعها هذا المخرج العصامي طوال ثلاثة عقود، قادماً من الظلّ إلى الواجهة، ومتكئاً على خبرة عملية لا أكاديمية مكّنته من الإلمام بأسرار الصنعة. فهو أحد التلاميذ النجباء للمخرج الرائد علاء الدين كوكش، أولئك الذين خبروا العمل داخل الاستديو والكاميرا الثابتة، وصولاً إلى التقنيات المتطوّرة التي أصابت الصورة التلفزيونية إلى حدّ ما. ذلك أنّ مغامرة بسّام الملّا راهنت على المحتوى الشعبي للمسلسل التلفزيوني، لا الإبهار البصري وألعاب الكاميرا التي انصاع لها الآخرون. كانت فرصته الإخراجية الأولى في مسلسل «كان يا ما كان» (1990)، وهو سلسلة حكايا شعبية موجهة للأطفال تحمل قيماً أخلاقية ببُعد أسطوري. لاقى العمل تقديراً واضحاً، قبل أن تأتيه فرصة إخراج مسلسل «الخشخاش» عن تأثير المخدرات وبعض القيم الريفية في مجتمع مغلق على تقاليد صارمة. إلا أن موهبته الحقيقية اتضحت في مسلسل «أيام شامية» (1992) الذي استعاد صورة المجتمع الدمشقي في أواخر العهد العثماني. ورغم سذاجة الفكرة التي طرحها العمل، وهي رهن بضع شعرات من شارب بائع فول وضياعها في ضربة عميقة لرجولته، إلا أنّ العمل لاقى نجاحاً كبيراً، نظراً إلى إحيائه بيئة لم تقربها الدراما السورية قبلاً بمثل هذه الحميمية والتشريح، بصرف النظر عن الموروث الاجتماعي المتخلّف الذي طرحته في ثنايا العمل. وسيقفز المخرج خطوة إلى الأمام في مسلسل «الخوالي» (2000) سواء على صعيد المحتوى وهو موسم الحج أو ما يسمى «محمل الحج الشامي»، وما يرافقه من طقوس، أم على صعيد التوثيق البصري لهذه الرحلة المقدّسة على طريق دمشق ومكّة. هكذا التقط بسّام الملّا بوصلته الدرامية في تأصيل الحكاية الشعبية الدمشقية على طريقة الحكواتي في المقهى، فكان عمله «ليالي الصالحية» (2004) مرآة لدمشق في مطلع القرن التاسع عشر من خلال مكابدات تاجر ماشية يستلم أمانة من عمّه وهي خابية من الذهب، ينبغي لمن يستلمها إبراز علامة محدّدة لا أحد يعرفها سواه، فتنشأ صراعات مع ابن عمه الذي كان مسجوناً حول هذه الأمانة. هذا الصعود المتدرّج في مزج الشعبي بالبصري، صار وشماً خاصاً بهذا المخرج المجتهد الذي فهم الدراما التلفزيونية كحكاية مسليّة في المقام الأول، من دون أن يحمّلها شعارات ثقيلة وطنّانة، كان الآخرون يراهنون عليها ويقيمون الندوات حولها.
مسار تصاعدي سيكون مسلسل «باب الحارة» قمّته وانهدامه في آنٍ واحد. فالنجاح الساحق لهذا العمل الذي يدور في حارة دمشقية تحمل اسم «الضبع» وضعه في مرمى أسئلة نقدية لم يستطع الإجابة عنها، مكتفياً بالذائقة العامة التي احتضنته بشغف لجهة صناعة أبطال شعبيين تفتقد إليهم في حياتها الراهنة لجهة الشهامة والشرف والتكافل. وإذا بالحلّاق يحتل دوراً في الصدارة، وعكيد الحارة، وعضوات الحارة في مواقف مضحكة رغم مقاصدها التراجيدية. رصيد لم يقطفه عمل آخر في تاريخ الدراما السورية، وهذا ما جعل محطات عربية تحتضنه كصورة مثلى عن المجتمع السوري كما ترغبه هذه المحطات، وليس كما هو في الواقع، فيما وجد فيه الدمشقيون ذاكرتهم المنسية بعدما فقدت مدينتهم خصوصيتها أمام زحف الغرباء إليها.
نقدياً، سيجد بعضهم أن هذا النوع من الأعمال محاولة لإعادة تصدير التخلّف


نقدياً، سيجد بعضهم أن هذا النوع من الأعمال محاولة لإعادة تصدير التخلّف، طالما أنّ دراماه تعمل على مديح الكبة الشامية وصراع الحموات، وثقافة داخل السور وخارج السور، و«سيدي وتاج راسي»، أكثر من اعتنائها بفتح العدسة نحو الجانب التنويري لصورة دمشق، ما جعل العمل في أجزائه اللاحقة يصرف من رصيده الأساسي كفرجة شعبية بسيطة تخاطب العوام، باشتباكه مع قضايا مصيرية ووضعها بين يدي عضوات الحارة. وإذا بالمسلسل يتحوّل إلى دجاجة تبيض ذهباً لمخرجها، فبات بمشية عرجاء لفرط تشظي وتوالد شخصياته الكاريكاتورية، وفقاً لسطوة هذه الشخصية أو تلك. حتى إنه أعاد شخصية «أبو عصام» بعد موت صاحبها إلى جزء لاحق بفبركة مضحكة تحمل بعداً جهادياً. لكن ورشة العمل التي تناوب عليها معظم نجوم الدراما السوريّين، كانت تتصرّف وفق حكمة «القافلة تسير والكلاب تنبح»، مع التفاتات جانبية لمحاور جديدة استجابةً لملاحظات النقّاد، بدت أثقل مما يحتمله هذا النسيج الهشّ للبناء الدرامي. ثم ستذهب الغنيمة الدّسمة إلى جهة إنتاجية أخرى بعد صراع في المحاكم، ما أصاب العمل كدمات أخرى أكثر ابتذالاً. من ضفة أخرى، خرج هذا العمل من الفضاء البصري إلى الفضاء العام بتتويج اسمه لمقاه ومطاعم واستراحات واسكتشات ساخرة بوصفه تاريخاً مفصلياً للشام التي ترفض الخيانة والعوانية والأشرار، فيما سيحمل مخرجه الراحل لقب «الآغا» بوصفه صاحب إقطاعية «باب الحارة» التي لا تفتح بوابتها للغرباء والغزاة!