لأسباب عديدة، لا أعتدّ بالعامية وسيلة تعبير مدونة؛ لأنها في الحقيقة وسيلة تواصل يتم تحصيلها بالمحاكاة، يتم تلقّيها عبر الوالدين أولاً، ثم العائلة، فالمجتمع. وبالتالي، فالعامية التي أتحدث بها، هي العامية الموروثة عن بيئتي التي تخصّ الطبقة الوسطى في مدينة المنصورة في وسط الدلتا. وهي تختلف تماماً عن العاميّة التي ورثها شخص ولد في نفس عمري في الأقصر أو أسيوط أو أي من مدن أو قرى الشرقية، وأيضاً عن ابن مدينتي الذي قد ينتمي إلى طبقة أخرى حتّى. ولأن العاميّة وسيلة تواصل اجتماعي في الأساس، لم تؤهَّل على أي نحو لكي تكون لغة أفكار أو علم أو ثقافة. يمكنها بالتأكيد أن تعبّر عن العواطف كما تفعل في الأغاني وشعر العامية والحكايات الشعبية. كما أنها لا تمتلك قواعد واضحة للكتابة أو النحو.
مع ذلك، قد يستهويني قراءة نص بالعامية، إذا حاول أن يقدّم تجربة أدبية. وأبرز مثال بالنسبة لي حتى الآن هو رواية «قنطرة الذي كفر» لمصطفى مشرفة، لكنه نموذج نادر للأسباب السالف ذكرها. ولسبب آخر إنّه النص الوحيد الذي لم أقل بعد قراءته ليته كُتب بالفصحى، ولأسباب أخرى تتعلّق بأن المقارنة بين جماليّات الفصحى والعامية ليست أبداً في صالح الأخيرة، مهما قيل عن ضعف تعليم اللغة العربية أو أزماتها أو غيرهما من المبررات التي يطلقها دعاة التدوين باللّهجة العامية أو المحكيّة المصرية.
أما أن تتم ترجمة نصّ من العربيّة إلى العامية، فهذا أمر يستوقف المرء حقيقةً، وقد أثار الأمر انتباهي عند صدور نص «رسالة الغفران» لأبي العلاء المعري إلى العامية المصرية، قبل سنوات. وبنظري، فقد تحول إلى نص هزلي، بل نص آخر لا علاقة له بالمعري، ولا «الرسالة»، وغير مفهوم الدوافع.
هناك منظومة كاملة يمكن بها تبرير الأمر بالنسبة لمن يسعى للترجمة إلى المحكية المصرية. منظومة لا تختلف عن المبرّرات التي ساقها سلامة موسى أو لويس عوض أو مصطفى مشرفة أو مصطفى صفوان أو غيرهم ممن حاول تجربة التدوين بالمحكية المصرية. وهي كما نعرف، تجارب لم يكتب لها لا النجاح ولا الانتشار لأسباب عديدة، منها أنها تُبنى على قواعد مكسورة أساساً، لأن المحكية وسيلة تعبير ذات إمكانات محدودة في المرادفات، بل فقيرة مقارنة بالفصحى.
وجماليات المحكيات، إن وجدت، قد تتوافر في الشعر أو الفولكلور لأسباب لها علاقة باستخدام الرمزية، أو الاستعارات، مع الأخذ في الاعتبار أن هذا كلّه مستمد من اللّغة العربية الأم، لأن النسبة الغالبة للمرادفات تأتي منها، ونسبة قليلة متوارثة من اللّهجات الأسبق.
لم أطلّع على تجربة نقل «الغريب» للمحكيّة المصرية بعد، وبالتالي فنقدي ليس موجّهاً للنص بل للفكرة، بناء على التجارب السابقة، وأيضاً لأسباب أخرى تتعلّق بأن الفكرة لا تبدو لي مبنيّة على موضوع جمالي وأدبي، بقدر ما تستند إلى مبرّرات إيديولوجية ترى في العربية لغة سلطة، ولغة مقدّسة، إلى آخر هذه الأقاويل التي يتمّ الترويج لها الآن كثيراً.
لست أيضاً في موقع الدّفاع عن اللّغة العربية وتطوّرها لأن الموضوع لا يحتاج دفاعاً، لكن حتّى لو سلمت جدلاً بأن هذا التيار أنتج كتباً عدة، أو آلافاً منها حتى لا يغضب أنصار الفكرة، فهل سيجد العوام فيها بديلاً مفهوماً للنصوص العربية الفصيحة؟ هل سيؤدي انتشار المحكيات إلى محو الأمية الثقافية في المجتمع ورفع مستوى الذائقة الأدبية؟ ثم ما مدى الانتشار الذي ستحقّقه وهي موجّهة لثقافة واحدة وتدعو للانغلاق على الذات؟ هل هو ابتعاد عن لغة أهل قريش كما يقول بعضهم؟ فلماذا لا يتكلّم أهل السعودية المعاصرون لغة أهل قريش؟ أقصد أن الانفصال بين اللّهجات واللغة الفصحى، موجود في كافة الأقطار العربية، واللجوء إلى المحكيات لا يؤدي إلا إلى تفتيت التراكم الثقافي العربي لكل قطر عربي، هذا بافتراض مد الفرض إلى حدوده القصوى.
لم تنتشر الإنكليزية لأنها جميلة أو سهلة، لكن لأسباب أخرى تماماً، اقتصادية أساساً، لأنها لغة الاقتصاد العالمي والتجارة العالمية والبنوك، ثم لغة العلم لاحقاً. هذه هي الأسباب نفسها لانتشار اللغة العربية في العصور الوسطى. وبسبب تغيّر هذه الظروف، تأثرت اللغة العربية وفقدت قوتها تدريجاً، لكنها في الوقت نفسه بسبب انتشارها في أرجاء العالم العربي، انتشرت موجات من تحديثها وعصرنتها في الشام ومصر والعراق والخليج، بالإضافة إلى الجهود الكبيرة التي بذلها النحويّون العرب وغير العرب وجعلها لغة بلاغة بالغة القوة والقدرة على التعبير.
إذا لم تكن هناك قدرة على استيعاب هذا كله، فالأمر في ظني ترف لا أعتقد أنّ ظروف نصوصنا العربية في العالم، ووضعها التنافسي المخزي، يلائمها هذا الترف، ولو دعا إليه بعض المترجمين الأجانب أو الأكاديميين أو سواهم!
* كاتِب ورِوائِي مِصرِي