عاشت فدوى عبيد (1939 ــــ 2022) مجدها بصمت... تماماً كما رحلت بصمت بعدما سقطت داخل منزلها في ولاية ميتشيغن الأميركية، ما أدى إلى إصابتها بنزيف في الرأس نُقلت على إثره إلى أحد مستشفيات الولاية. هناك، خذلها قلبها الضعيف، فانسحبت تاركةً ألماً مضاعفاً في قلوب محبّيها، وحزناً على فنانة آثرت الصمت واتخذته مسكناً سنوات طوالاً.في أحد لقاءاتها الصحافية النادرة مع مجلة «الحسناء» في الثمانينيات، أوصت فدوى قائلة: «لفّوني بعلم بلادي عندما أموت». كان لها ما أرادت. تدثّر نعشها بالعلم اللبناني في جنازتها يوم الإثنين الماضي، وسار خلفها حشد من المحبين والأصدقاء، قبل أن تُوارى الثرى في إحدى مقابر ميتشيغن الإسلامية بجانب قبرَي والديها. هكذا، طُويت مسيرة فنانة أحبت وطناً لم يبادلها بالمثل، هي التي كانت تردّد دوماً: «أختنق عندما لا أتزوّد بهواء لبنان».
رصيدها حافل يربو على 600 أغنية

كانت فنانة خارج التصنيف. غنّت أصعب القصائد وأجملها. برعت في الأغاني الشعبية. تألّقت بأغانيها الوطنية. ارتقت بالابتهالات الوجدانية والدينية إلى آفاق أرحب. طبعت خشبة المسرح بحضورها وإطلالتها العفوية، وسجّلت حضورها في المسلسلات الإذاعية والتلفزيونية مثل «عليا وعصام» (1977) و«أنا أنت» (1976) و«مالك بن أبي السمح».
عاصرت الكبار وكانت منهم. ترفّعت عن الصغائر والضغائن الفنية ومحاربة أبناء الكار لبعضهم. لم تنافق أحداً، ولم تتوسّل جماهيريةً، حافظت على مسافة لصون نفسها وفنّها من إعلام كان يقتات على النمائم ويتغذى على الشائعات، فخسرت بعضاً من شعبية وربحت كثيراً من محبة وتقدير.
رصيد حافل يربو على 600 أغنية سجّلتها الذاكرة الفنية لفدوى أشهرها: «شاب حليوة أفندي»، و«قول للحلوة»، «نهاية حب»، «حبيبي إنت»، «عيوني هالعيون»، «على وين ما تروح يا هوا»، «لا تكابر»، «راح إمبارح وطل اليوم»، «حبك يا حبيبي قدر»، و«عالعوامي يا عوام»... بالإضافة إلى تعاملها مع الأخوين الرحباني، والياس الرحباني، وحليم الرومي، وفيلمون وهبي، وعفيف رضوان، وشفيق أبو شقرا، وتوفيق الباشا، وسامي الصيداوي وغيرهم الكثير.
أما في مصر، فقد غنّت لعمالقة النغم من رياض السنباطي إلى سيد مكاوي ومحمد الموجي، وبليغ حمدي، وفريد الأطرش، ومنير مراد. كما غنّت لسهيل عرفة، وعبد الفتاح سكر من سوريا، وأبو بكر سالم من اليمن وغيرهم الكثير.

تفتّح الموهبة
وُلدت فدوى في لوس أنجلوس في 2 آذار (مارس) 1939وحيدة لوالديها اللذين أصرّا على تعليمها اللغة العربية وإرسالها دورياً إلى لبنان حيث تلقّت تعليمها الابتدائي في مدرسة الراهبات المارونيات. هناك لفتت الانتباه بصوتها وسرعان ما أصبحت مطربة المدرسة في الأعياد والمناسبات المدرسية. أمضت طفولتها متنقلةً بين زحلة وبيروت وبرج البراجنة حيث كان أحد أقربائها عباس عبيد قد أسّس عام 1938 أول سينما في ضاحية بيروت الجنوبية وهي «سينما الرياض» (أُقفلت وهُدمت عام 1973) التي كانت محط أنظار أبناء المنطقة وخارجها. هناك بدأت فدوى باستكشاف صوتها الجميل وترديد ما تسمعه من أغنيات لأم كلثوم، وليلى مراد ومحمد عبد الوهاب.
آمن السنباطي بموهبتها ورأى فيها صوتاً وجدانياً مفعماً ونضراً، وكان صاحب الفضل الكبير في مسيرتها المصرية


والدتها سيدة الهندي كانت أول من شجّعها على تنمية موهبتها وصقلها أكاديمياً، فتعلّمت العزف على البيانو والعود. سلكت طريق الاحتراف الفعلي لدى عودتها الى الولايات المتحدة في عمر الـ 17 سنة عندما صدرت لها أسطوانة تضمنت مقتطفات من أغنيات تراثية لبنانية ومواويل ودلعونا، لتنطلق بحفلات عديدة بين الجاليات العربية في مختلف الولايات.
مع إنهائها دراستها الثانوية في الولايات المتحدة، عادت إلى بيروت لتلتحق بالجامعة الأميركية وتنال إجازةً في الطب النفسي، ثم الماجستير من جامعة ميتشيغن ليكون صوتها سبباً في وحدة الطلبة العرب في الجامعة التي وضعت تاج الجمال على رأسها بعد انتخابها ملكة جمال الجامعة بشعرها الأسود الفاحم وعينيها الذابلتين.

في هوليوود الشرق
رويداً رويداً، كبرت طموحات فدوى وتطلّعت نحو هوليوود الشرق لتكون محطتها الأولى وبوابتها الأوسع نحو شهرة عربية. في ستينيات القرن الماضي، قصدت القاهرة حيث قدّمها المفكر المصري مصطفى محمود للموسيقار رياض السنباطي قائلاً له: «سأسمعك صوتاً من لبنان سيسمو بألحانك». آمن السنباطي بموهبة فدوى ورأى فيها صوتاً وجدانياً مفعماً ونضراً، فعلّمها أصول الغناء وكان أستاذها الفعلي وصاحب الفضل الكبير في مسيرتها المصرية. ولطالما ردّدت فدوى بأنّ غناءها قبل مرحلة السنباطي لم يكن كما بعده.

احتفظت ببرقية تبرّع للمجهود الحربي أرسلتها إلى جمال عبد الناصر

أنغام السنباطي عانقت صوت فدوى بأكثر من 12 لحناً أبرزها ابتهال «لبيك يا ربي» (كلمات عبدالله شمس الدين). إنّها إحدى الأغنيات التي تتمتع برصيد واسع عند المصريين لاستمرار بثّها أيام الجمعة ولدى فواصل الأذان في الإذاعة المصرية: «لبيك يا ربي بالشَّوق والحب، يا غافر الذنب يا قابل التوب لبيك يا ربي، يا واسع العفو بالدمع والشَّجْوِ واللحن والشَّدْوِ والروح والقلب لبيك يا ربي، صلَّى لك الفكر والسر والجهر، يا من له الأمر في البعد والقرب لبيك يا ربي، هذه مصابيحي وذي تسابيحي في خلوة الروح في عالم الغيب لبيك يا ربي، هذي تَحَايَايَا في ليل نَجْوَايَا تشدو لِمَولايا أنشودة الصَّبِ لبيك يا ربي، يا مُنْزِلَ الذكر يَسِّرْ به أمري واشرح به صدري واكشف به كربي لبيك يا ربي». كما غنّت للسنباطي «محمد المختار» التي يغلب عليها شجن لحن «القلب يعشق كل جميل»، بالإضافة إلى ابتهال «مع الله». ورغم أن السنباطي رأى في صوتها وجدانيةً مثالية للابتهالات الدينية، إلا أنّه قدّم لها أغنيات عاطفية كأغنية «حبك على جبيني قدر». بدوره، قدّم لها محمد الموجي ابتهال «مع السارين»، لكنّ فدوى رأت في الخروج من الابتهالات تنويعاً في مسيرتها، فلحّن لها الموجي «شغل بالي» و«سهرانة» اللتين نالتا نصيباً من الرواج، كحال أغنية «على وين ما تروح يا هوى» (ألحان سيد مكاوي)

الأغاني الوطنية
عمل عمالقة اللحن على احتضان صوتها، فكان فريد الأطرش من أوائل المعجبين بهاً، وشغل حيزاً كبيراً في حياتها، إذ كان يصفها بـ «أسمهانية الصوت»، فرشّحها لبطولة فيلم يحكي قصة شقيقته، إلا أن المشروع لم يكتمل. وقد حفلت الصحافة الفنية في ذلك الوقت بأخبار عن علاقة بينهما وصلت إلى حدود الزواج الذي لم يتم مع الموسيقار. شاركت فدوى عبيد فريد الأطرش في أغنية وطنية بعد هزيمة 67 بعنوان «يا بلادي... يا بلادي... فيك عاش الأنبياء». وقد قدّمت بصوتها مقطع: «طل فجر الأمل طل... وهلال المحبة هلّ، والتعاون والتضامن... بين أهل العروبة هلّ». كما غنّت للسنباطي «عروس السلام»، بالإضافة الى «أوطاني عربية» التي لحّنها لها أحد الأمراء السعوديين.
لم تكن تلك الأغاني أداء صوتياً فقط، بل أتت تعبيراً عما آمنت به فدوى طوال حياتها. شغلتها القومية العربية منذ طفولتها، فاحتفظت ببرقية تبرّع للمجهود الحربي أرسلتها أثناء دراستها الثانوية في الولايات المتحدة للرئيس المصري جمال عبد الناصر بمبلغ 30 دولاراً. وكانت فرحتها الكبيرة بعدما ردّ عليها عبد الناصر ببرقية لا تزال موجودة في منزلها: «سننشرها في وقت لاحق».
غنّت أصعب القصائد. برعت في الأغاني الشعبية. تألّقت بأغانيها الوطنية. ارتقت بالابتهالات الوجدانية والدينية إلى آفاق أرحب


المرحلة اللبنانية
بعد انطلاقتها في القاهرة، عادت إلى لبنان وأجازتها الإذاعة اللبنانية بدرجة امتياز من عمالقة الكلمة والنغم أمثال: توفيق الباشا، زكي ناصيف، حليم الرومي، نزار الحر، أسعد سابا، خالد أبو النصر، طانيوس الحملاوي، أسعد السبعلي وغيرهم. تعاملها الأول لبنانياً كان مع حليم الرومي الذي لحّن لها ستة ألحان، ثم مع توفيق الباشا، فزكي ناصيف بأغنية «ع دروبك»، ثم الأخوين الرحباني مع «ناطرة»، والياس الرحباني وغيرهم. لكن يبقى لوليد غلمية مكانة خاصة عند فدوى عبيد التي كانت تصفه بوالدها الروحي الذي عمل على اكتشاف مناطق جديدة في صوتها كأغنية «قول للحلوة» و«روح واتركني لحالي روح». وقد قدّمها في مسرحية «يا ليل» من تأليف جورج جرداق ضمن «مهرجانات جبيل» عام 1971 وشاركها البطولة الفنانان جوزف عازار ودريد لحام.

شاب حليوة
الجماهيرية الحقّة تذوقتها فدوى مع أغنيتها الأشهر «شاب حليوة أفندي». ولولادتها قصة طريفة: مع زيارة الشاعر ميشال طعمة لفدوى، رمى لها الكلمات، قائلاً: «اقري هالغنية واعطيني رأيك». بعد قراءتها، ابتسمت بهدوء وخجل كعادتها قائلة: «يا ميشال بدك ياني غني شاب حليوة بعد الابتهالات والقصائد التقيلة. غيّرلي شوي بالكلمات». أجابها: «ولا كلمة هالأغنية رح تضرب كتير. وكل الفنانات رح يعاتبوني ليش ما عطيتها الهم وأنا بدي انقلك لمطرح جديد، وهالغنية ما حدا رح يلحنها إلا ملحم بركات». صدق حدس ميشال طعمة، ولتصبح «شاب حليوة أفندي» الأغنية الأكثر رواجاً وشهرةً في مسيرتها، سجّلتها كفيديو كليب وهي تركب الخيل. ولكن لسوء الحظ، لم يتم حفظ الأغنية/ الكليب وضاعت ضمن العديد من المفقودات.

أحدث صورة لها

بعد نجاح الأغنية الساحق، اتفقت فدوى مع ملحم على لحن ثالث بعد «شاب حليوة» و«حبايب»، وأجرت بروفات لا تزال موجودة في منزل العائلة للحن الذي فوجئت فدوى بإعطائه للشحرورة صباح. وعندما عاتبت ملحم على الأمر، ردّ بطرافته: «شو اللحن بدو ينطرك، حملتي حالك وسافرتي على أميركا 6 أشهر فأعطيته لصباح».
لم تهوَ فدوى السياسة وكانت من أكثر الفنانات ابتعاداً عن دهاليزها، لكن تسجل الذاكرة الفنية لفدوى حادثة طريفة مع أغنية «مالو الحلو مالو» التي لحّنها لها فريد الأطرش أثناء مرحلة استقراره في لبنان. ولكن لجنة الاستماع في الإذاعة اللبنانية تردّدت في اعتمادها توجّساً من أن تردّدها المعارضة اللبنانية تهكماً وسخرية من الرئيس اللبناني آنذاك شارل الحلو.

العودة إلى مصر
بعد مرحلة نجاح لبنانية، عادت فدوى إلى مصر واستمر نشاطها في المحروسة حتى قرّرت العودة إلى لبنان عام 1982 مع الاجتياح الإسرائيلي لبيروت. غنّت لمارون كرم وحسن غندور «يا أرض بلادي فيكي تربيت» و«وطني حبيبي يا عالي النسب» لمارون كرم وألحان خالد أبو النصر.
وخلال فترة إقامتها في بيروت، سجّلت حلقات لبرامج عديدة لتلفزيونات الأردن والعراق والكويت وبرامج تسجيلية في اليونان، بالإضافة إلى مسلسل إذاعي «مالك بن أبي السمح» لمصلحة الإذاعة السعودية مع وديع الصافي وألحان محمد محسن. ومن أبرز الأغاني فيه دويتو «لو كنت أدري». واستمرت فدوى على هذه الحال حتى عام 1989-1990 عندما غادرت لبنان نهائياً مع اندلاع ما سمّي بـ «حرب التحرير» واحتلال شقتها في بناية يعقوبيان في الروشة من قبل المتحاربين.
إنشاء قناة خاصة تتضمن كنوزاً فنية وبروفات غير منشورة تجمعها بكبار الفنانين


يبقى التساؤل الأبرز: لماذا لم تستطع فدوى رغم تاريخها الحافل وتعاملها مع العمالقة في مصر ولبنان، أن تنال الشهرة المستحقّة لها؟ ربما لم تكن حياتها الرصينة مغرية للصحافة الفنية، إضافة إلى مبادئ ثابتة لم تحد عنها أبرزها أن لا مكان للحياة الخاصة على صفحات المجلات، إضافة إلى خجلها الشديد. ابتعدت بشكل مطلق عن الأجواء الليلية والحفلات والسهرات. لم تجامل صحافياً أو إعلامياً أو فناناً، إلى درجة أن الموسيقار فريد الأطرش قال لها: «أنت مش مدردحة وعشان تتصيتي لازم تبطلي خجل وتدخلي الحياة الاجتماعية للفنانين ومش بس تغني وخلاص». قليلة كانت صداقاتها مع الوسط الفني أبرزها مع جارتها في الروشة جورجيت النابلسي، بالإضافة إلى صديقها المقرب الفنان الراحل نصري شمس الدين الذي واظبت على زيارته في بيت عائلته في جون، وفي بيروت مستفيدة من نصائحه حول أغانيها ومشاريعها الفنية. وقد سجّلت لتلفزيون لبنان سهرات «من ليالينا» مع نصري شمس الدين وجوزيف عازار وفيلمون وهبي و«فرقة الأنوار».

خلال تشييعها في ميتشيغن

المتصوّفة
بخلاف الشائع، لم تعتزل فدوى الفن مطلقاً، بل كانت هناك محاولات جدية العام الماضي لتسجيل أغنيات احتفظت بها، غير أنّ القدر قال كلمته. آثرت فدوى طوال تلك الفترة الاعتكاف عن الفن، فتبحّرت في التصوف قارئةً لابن عربي وجلال الدين الرومي وعمر الخيام. كما كانت من أشد المعجبين بمؤلفات المفكر مصطفى محمود. ورغم الأخبار التي كثر تداولها حول حجابها، إلا أنها لم ترتد الحجاب وآمنت بكل الأديان. وكانت تعتبر دوماً أنها لبنانية عربية قبل أي شيء، كما عشقت العمل الخيري. وأشد ما كان يؤلمها بحسب ما كشفت لنا ابنة عمتها نادية رضا اليافي وقريبتها سهير عبيد الأوضاع المأساوية التي وصل إليها لبنان في سنواته الأخيرة ومواظبتها دوماً على إرسال المساعدات إلى المحتاجين.
ارتبطت فدوى بالفن ووهبته حياتها ومالها. ففي السبعين من عمرها، تزوجت للمرة الأولى من العالم الفيزيائي الفلسطيني طاهر منصور ليقف إلى جانبها ويرعاها. ورغم تقديسها لمفهوم الأسرة، إلا أنّ الفن أخذ منها حلم الأمومة. استعاضت عن ذلك بعلاقة وثيقة جمعتها بوالدتها التي رافقتها في كل حفلاتها وتنقّلاتها.


حارسة الذاكرة
منذ حوالى عامين، تسلّمت ألماز نصري شمس الدين صبح الصديقة المقرّبة من الفنانة الراحلة أرشيفها الفني كاملاً وحصرياً. هكذا، عملت على إعادة تسجيله وتبويبه وتوثيقه ونقل الكاسيتات والأسطوانات وأشرطة «الريل» إلى النظام الرقمي، بالإضافة إلى حفظ صورها ولقاءاتها الصحافية والتلفزيونية والإذاعية، والعمل قريباً على إنشاء قناة خاصة تتضمن كنوزاً فنية وبروفات لم تُنشر من قبل تجمع الراحلة بكبار الفنانين. مبادرة من شمس الدين لتعريف الأجيال بقامة فنية عانت من التعتيم في حياتها، وعلى الجميع اليوم أن يحفظ جزءاً بارزاً من تاريخ الفن اللبناني والعربي الذي تمثله فدوى عبيد. وبحسب شمس الدين التي زوّدتنا بمعظم المعلومات الدقيقة عن فدوى، سيستمر العمل على أرشيف الفنانة الراحلة لمدة عام إضافي حتى يكون متاحاً للجميع