من هو المجرم؟ ما العلاقة بين الجريمة وعلم النفس؟ هل الإجرام موروث أم أنّه مكتَسب نتيجة الظروف والتجارب؟ أسئلة كثيرة من هذا النوع تحملها في طيّاتها حلقات «بارانويا» الـ 14 التي وصلت قبل أسابيع إلى منصة البثّ التدفّقي السعودية «شاهد VIP». تجربة درامية جديدة يخوضها النجم السوري قصي خولي في سياق محاولاته الأخيرة للتميّز عن زملائه. رهان كسبه في «لا حكم عليه» وإلى حدّ ما في «20 20»، وكلاهما من كتابة نادين جابر وبلال شحادات وإخراج فيليب أسمر. يومها، أعاد «أبو عميد» إلى أذهان المشاهدين بعضاً من أفضل أدواره التي أكسبته شعبية واسعة في الدراما السورية، وذكّرنا بتلك الموهبة التي جسّدت بإتقان «سامر البسطات» في «غزلان في غابة الذئاب» (2006) و«يعرب» في «تخت شرقي» (2010) و«جابر» في «الولادة من الخاصرة» (1 و2). محطّات درامية ناجحة، كادت تَمحوها خياراته في بعض الأعمال العربية المشتركة التي انضم إليها في السنوات الأخيرة.وها هو قصيّ يدخل عالم الدراما النفسية الآخذة في الانتشار في العالم العربي، حيث يسير صنّاع المسلسلات على الدرب التي يسلكها نظراؤهم في الغرب منذ عقود. كثيرة هي التفسيرات المتوافرة لشهرة هذا الـ «جنر»، ولسنا في صدد الخوض فيها الآن، لكنّ الأكيد أنّنا سنكون في الفترة المقبلة أمام المزيد من الإنتاجات العربية التي تدور في هذا الفلك. وإذا كان خولي قد نجح في اختبارَيْ «لا حكم عليه» و«20 20»، قد تكون خطوته هذه المرّة ناقصة. لا نتحدّث هنا عن جاذبية القصة، بل المبالغة في الأداء أحياناً واستنساخ تعابير وانفعالات سبق أن شاهدناها في كثير من أدواره، ناهيك بالقوّة المصطنعة التي لا تبدو مُقنعة غالباً مقارنة بالمقوّمات الجسدية والنفسية للشخصية التي يلعبها.
تتصرّف شخصية «وزير» بطريقة تحيلنا إلى «البروفيسور» في «لا كاسا دي بابيل»


باختصار، تدور الحكاية التي كتبها وأخرجها السوري أسامة عبيد الناصر وأنتجتها شركة «صبّاح إخوان» في ثلاثة خطوط زمنية متداخلة، حول «وزير إبراهيم» (قصيّ خولي). تغيّر زيارة بحثية في علم الجريمة إلى السجن حياة الاختصاصي النفسي «رواد» (يقدّمه سعيد سرحان بطريقة متقنة) عندما يلتقي بـ «وزير» المصاب بالفصام، الذي يعتقد أنّه يتم استغلال مرضه لتلفيق له تهمة بقتل 21 شخصاً. «رواد» الغارق بدوره في واقع نفسي معقّد نتيجة طفولة قاتمة شاهد خلالها والده يقتل والدته ثمّ ينتحر فيما لم يبقَ له سوى شقيقه المصاب بالتوحّد، يجد نفسه جزءاً من «لعبة» المتهم الذي كان ينوي مقابلته، والذي يؤكّد أنّ هناك مَن حاك له كلّ هذه المؤامرة (داغر المجيدي ــ بيار داغر). فالرجل قرّر أنّ الزائر هو سبيله الأخير من أجل إثبات براءته، وفي حال رفض... فالعواقب ستكون وخيمة! وفيما يحاول «رواد» تشخيص حالة «وزير» الحقيقية، وإذا ما كان الوارد في التقارير الطبيّة المتوافرة حقيقياً، يقع الشاب ــ أو يوقع نفسه عمداً ــ في قلب دوّامة لا تنتهي من الخطر والمجازفة. والفصام علمياً هو اضطراب عقلي مزمن وشديد يؤثّر في طريقة تفكير الشخص وشعوره وسلوكه. كما قد يسمع المصابون به أصواتاً غير موجودة، أو يعتقدون أنّ أشخاصاً آخرين يحاولون إيذاءهم، وغالباً ما يصفه الأطباء بأنّه نوع من الذهان، ما يعني أنّ الشخص قد لا يكون دائماً قادراً على تمييز أفكاره الخاصة عن الأفكار التي تحدث في الحقيقة. يقع المسلسل في مأزق كبير لناحية الحبكة وترابط خطوط الحكاية، خصوصاً في ظلّ عدم اتضاح الدوافع الحقيقية للشخصيات، على رأسها «وزير» الذي كان فناناً يدير فرقة روك ثم تحوّل بعد انتكاسات مهنية عدّة إلى خارج على القانون يخطّط لعملية سطو محكمة على مصرف، على طريقة «البروفيسور» في مسلسل «نتفليكس» الإسباني الشهير «لا كاسا دي بابيل». بالمناسبة ماذا عن اللوك الغريب القائم على الشعر الأحمر العشوائي الذي يظهر فيه البطل؟
إلى جانب قصيّ خولي، هناك دويتو لافت للأنظار تمثّل في «ميلا» و«نسيم». شخصيّتان تألّق في أدائهما كلّ من اللبنانيَّيْن ريتا حايك وجنيد زين الدين. تقمّص واضح للدورَيْن بكلّ أريحية. ولعلّ هذا تحديداً ليس غريباً على حايك التي أقنعتنا من دون أدنى شكّ بأنّها «ميلا» المجبولة بالجنون والقوّة والجرأة التي تشعل خطواتها النار المتّقدة في داخلها.
ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ التفرّد الذي حاول صنّاع العمل تكريسه في تصميم تتر البداية، استُكمل في الشارة التي حملت عنوان «عالي» وتوقيع الرابر والمنتج الموسيقي السوري «بو كلثوم» غناءً وكتابة كلمات وتلحيناً. فقد وقع الاختيار على هذا الفنان الشاب الذي لجأ إلى هولندا قبل سنوات لتأليف الموسيقى التصويرية الخاصة بـ «بارانويا» أيضاً. بلحيته الكثّة وملامحه الهادئة، يُعتبر صاحب ألبوم «بعبع» مغنياً متمرّداً من خلال الموسيقى على الكثير من الأنماط الاجتماعية والسياسية بلده الأمّ. وهنا، من الضروري الإشادة بالأغنيات المنوّعة التي تحاكي أنماطاً فنية وفترات زمنية متفاوتة والتي اعتمدها المخرج على طول الطريق.
إيقاع الأحداث البطيء أحياناً قد يكون مبرّراً بالنسبة إلى البعض بما أنّه من الواضح أنّ هناك جزءاً ثانياً قيد التحضير، قد يحمل الإجابات الشافية لموجة التساؤلات التي تأتّت مع نهاية الموسم الأوّل، على أمل ألّا يلقى العمل الذي يُطبخ على النار مصير الجزء الثاني من مسلسل «العميد» الذي عرضته «شاهد VIP» قبل أشهر وكان من بطولة تيم حسن (لم يبصر النور حتى الآن).
وفي النهاية، يبقى الثابت أنّ ما حاول «بارانويا» قوله إنّ السجون لا تأخذ دوماً شكل جدران وقضبان وغرف مُظلمة، بل تكون أحياناً عبارة عن عائلات أو أصدقاء أو مجتمعات كاملة تعاقب المنتمين إليها، بجرائم أو من دونها. ففي نهاية المطاف... جميعنا مرضى!

«بارانويا»
على «شاهد vip»