حملت نهاية 2021 خبراً صادماً لمحبّي السينما في مصر والوطن العربي، هو اعتزال المخرج داود عبدالسيد (1946)، في قرار يبدو أنّ «فيلسوف السينما» لن يتراجع عنه، خصوصاً أنه أعلن بعد انتشار الخبر أن هذا الاعتزال فُرض عليه ولم يختره. وأوضح أنّ جمهور السينما الذي كانت أفلامه وأفلام أبناء جيله تُقدَّم إليه قد تغيّر، وأبناء الطبقة المتوسّطة والأدنى أصبحوا غير قادرين الآن على الذهاب إلى صالات العرض السينمائي بسبب ارتفاع أسعار التذاكر. أما جمهور السينما الحالي، فمعظمه ينتمي إلى طبقة لا يشغلها اهتمام ولا يكدّرها همّ. هم يبحثون عن التسلية من خلال سينما تجارية تهتم بالتكنيك والإنتاج السّخي، لكن الخالية من المضمون. وأضاف لاحقاً أنه يُدرك جيداً أن أي سيناريو سيقدّمه للرقابة، سيقابَل بالرفض. علماً أنّه ذكر قبل سنوات في مقابلة مع «فرانس 24» أنّ «الدولة المصرية تعتبر أنّ وظيفة الإعلام والسينما هي خدمة النظام».هل استسلم المحارب العتيق الذي دأب على صناعة الأفلام هو وأبناء جيله على مدى أكثر من أربعة عقود، رغم أنّه قاوم من قبل لسنين طويلة، وواجه شتى أنواع الظروف والعقبات، وظل وأبناء جيله ملتزمين ومصرّين على التواجد والاستمرار في إنجاز أفلام تعبّر عن هموم المصريّين وانشغالاتهم وقضاياهم.
من «مواطن ومخبر وحرامي»

في عام 1967، حين كانت تضرب مصر نكسة عسكرية لم يحدث لها مثيل في التاريخ، وقف على أبواب السينما المصرية ثلاثة شباب تخرّجوا لتوّهم في معهد السينما. استطاع الثلاثة ومعهم قلائل آخرين، أن يغيّروا وجه السينما المصرية. الثلاثة هم: علي بدرخان (1946)، خيري بشارة (1947) وداود عبدالسيد، قبل أن يلحق بهم رأفت الميهي (1940 ـــ 2015)، عاطف الطيب (1947 ـــ 1995) ومحمد خان (1942 ـــ 2016).
المخرجون الستة الذين ظهرت أفلامهم الروائية الطويلة الأولى مع نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات، وضعوا شكلاً جديداً للسينما. خلعوا عنها ثوب الزيف والدراما المبالغة التي كانت تسيطر عليها، باستثناءات قليلة، وقرّروا أن يقدّموا الواقع كما يرونه وليس كما تفضّله الصناعة. هكذا، استحقّت سينماهم تسمية «الواقعية الجديدة» في السينما المصرية.
مع ذلك، كان لكلّ مخرج أسلوبه ورؤيته الخاصة. أكثرهم نشاطاً كان عاطف الطيب ومحمد خان. قدّم الأول 21 فيلماً على مدى 13 عاماً، والثاني 24 فيلماً على مدى 35 عاماً. ولم يوقفهما عن العمل المتواصل سوى الموت الذي اختطف الأول عام 1995 والثاني عام 2016.
يلي الطيب وخان في عدد الأفلام كل من رأفت الميهي (12 فيلماً) انتهت بوفاته عام 2015، وخيري بشارة (11 فيلماً)، توقفت باعتزاله السينما عام 1996، وعلي بدرخان (10 أفلام)، ثم يأتي داود عبدالسيد بتسعة أفلام أخرجها وكتب معظمها، كان آخرها «قدرات غير عادية» في 2015.
تميّزت أفلامه بالعمق في المضمون والشاعرية في الأسلوب


بقيت سينما داود عبدالسيد في مكانة خاصة، بعيدة إلى حد ما عن أفلام المخرجين الآخرين، لا تشبهها أي سينما أخرى. لعلّ أبرز سماتها كان العمق في المضمون والشاعرية في الأسلوب. كان كمن يأتي متأخراً، ليقول القول الفصل في أي قضية مطروحة على الساحة. فالحديث عن الانفتاح ينتهي مع فيلمه الأول «الصعاليك» (1985)، الذي توقّف عنه الناقد الراحل سمير فريد في كتابه «الواقعية الجديدة في السينما المصرية»، قائلاً: «بقدر ما يمثّل هذا الفيلم مولد فنان بقدر ما يمثل نهاية سينما وأعني بها سينما الانفتاح، التي بدأت بفيلم علي بدرخان «أهل القمة» ووصلت إلى الذروة في فيلم عاطف الطيب «سواق الاتوبيس». فالفيلم الأول أثار القضية، والثاني عبّر عن نتائجها، ثم جاء «الصعاليك» ليتغلغل في أعماقها ويجعل الطريق مسدوداً أمام المزيد في تناول هذا الموضوع أو على الأقل شديد الصعوبة». وعن حالة التناقض والتوهة التي عاشها المواطن المصري مع نهاية القرن الماضي يأتي «البحث عن سيد مرزوق» (1991). أما العشوائيات وما تحويها من قلة حيلة ومواجهة العجز عند الفقراء، فيكاد لا يقوى أحد على الاقتراب منها بعد رائعتي «الكيت كات» (1991) و«سارق الفرح» (1995). في المقابل، أطلّت عشوائية من نوع جديد في المجتمع المصري بعد الفيلمَين السابقين بعقد من الزمن عبّر عنها عبدالسيد في «مواطن ومخبر وحرامي».

من «رسائل البحر»

وكما لم تشبه سينما داود عبدالسيد أي سينما أخرى، فقد كانت له هو الآخر سمات محددة، جعلته متفرداً إلى حد كبير بين أبناء جيله. من أهم هذه السمات، أنه ورأفت الميهي أكثر من ينطبق عليهما مصطلح «سينما المؤلف». داود عبدالسيد لم يُخرج إلا أفلاماً من تأليفه باستثناء «أرض الأحلام» (كتبه هاني فوزي عام 1993)، و«الكيت كات» و«سارق الفرح» اللذان كتب لهما داود السيناريو عن أصل أدبي هو رواية «مالك الحزين» لابراهيم أصلان، وقصة «سارق الفرح» لخيري شلبي. أما الأفلام الستة الأخرى («الصعاليك»، «البحث عن سيد مرزوق»، «أرض الخوف»/ 2000، «مواطن ومخبر وحرامي»/ 2001، «رسائل البحر»/ 2010، و«قدرات غير عادية») فيعود تأليفها بالكامل لداود عبدالسيد. السمة الثانية أنه كان الأبطأ من بين أقرانه. ففي الوقت الذي كان فيه المخرجون الآخرون يصنعون فيلمين وأحياناً ثلاثة في العام الواحد، كان عبدالسيد يقدم فيلماً كل عامين، أو خمسة.
من «سارق الفرح»

وفي إحدى المرات، وصلت الفترة بين الفيلمين إلى تسع سنوات. وبينما لجأ مخرجو جيله وتحديداً محمد خان وخيري بشارة إلى سينما الديجيتال كوسيلة للتحايل والتغلب على شروط السوق السينمائي القاسية والمنتجين الذين أصبحوا مع نهاية التسعينيات يلهثون وراء الأفلام الكوميدية متجاهلين تماماً أي سينما جادة، لم يبرح عبدالسيد مقعده حتى يتأكد من نجاح التجربة، التي لم تنجح في حينها. السمة الثالثة، أن الحالة الفنية في مصر شهدت، مع بداية الألفية الثالثة، محاولات لجذب مخرجي السينما لصناعة مسلسلات تلفزيونية. وبالفعل توجه بعض هؤلاء إلى الدراما التلفزيونية. هكذا، قدم محمد خان «فوازير» (فرح فرح) عام 2003، ثم بدأ خيري بشارة في الإخراج للتلفزيون منذ عام 2003 أيضاً بمسلسل «مسألة مبدأ» ولا يزال مستمراً حتى الآن. وقدم رأفت الميهي مسلسل «وكالة عطية» عام 2009، وكان هناك مشروع لم يكتمل لعلي بدرخان لمسلسل بعنوان «الفراشات تحترق دائماً». منذ تلك الفترة لغاية الآن، تقدم هائل شهدته الدراما التلفزيونية، إلا أنّ داود عبدالسيد لم يفكر يوماً في دخول مجال التلفزيون، ولم تنطلق شائعة واحدة عن تفكيره في تقديم مسلسل.