في «حجر الورد» (2002)، هذا النص الذي قُرئ لحسين البرغوثي وهو على فراش موته، هناك تاريخ مفتوح على الأزمنة والأمكنة. يبدؤها بالجملة التي لا تُنسى: «أتى كنبيّ من عالم آخر ومن حلم مختلف». يخلق حسين في نصه لحظات استثنائية، فيكون الشعر لحظات خاصة ندرك أنها من عالم آخر لا تنتمي إلى هذا العالم لكنها لوهلة ما تتجول داخله وتسمي أمكنته وحضاراته. مهمة اللغة عند حسين، أن تأخذنا بعيداً، فنصعد معها من طابق إلى طابق ومن جملة إلى جملة، ونحن ندرك أن ثمة عودة لكنها ستغير الكثير، لأن الواقع غير موجود. إنه حلم كبير وغريب، أو ربما كما قال حسين عن نصه: «أريد جملاً تشعّ بالإيحاءات وكنت أسأل نفسي كيف أربطها، أنت كقارئ تربطها بالإيقاع، وهذه مشكلتك أنت، فالجمل قابلة للربط، لا يوجد منطق بمعنى سبب ونتيجة لكي يربط هذه الجملة بتلك، أو بين فقرة وأخرى، أو أين نهاية وبداية عبارة وأخرى أو صوت وآخر».تتقاطع شخصية النبي أو المعلم الذي يتحدث عنه مع شخصية السارد في هذا النص، إلى درجة يتيه فيها القارئ الذي يكتشف في ما بعد أن تلك هي جمالية هذا النص الذي يضعنا في حالة ذلك الاستثناء أو ذلك الجنون، فيقول لنا حسين: «لم يعد يذكره أحد من جيلنا، لا يبكي عادي على استثناء، أخرجناه إلى الهامش». ربما يتساءل القارئ هنا عما نفعله في الواقع بالشخص الذي يخرج من قواعد الجماعة ومن تعاليم محدّدة ومرسومة. هناك وجود لفلسفة ما تتحدث عن «كيف ننظر إلى أنفسنا» في «حجر الورد»، لكن حسين لا يكتبها بلغة عادية، فهناك إيحاء كما قال، هو يدربنا على ذائقة أخرى تتذوق المختلف لتشعر بالشخص المختلف أو «النبي» كما سماه. «كان واضحاً ووضوحه يخيفنا»، يقول حسين. هذا الوضوح هو وضوح الاستثناء الذي يريد حسين أن يجعلنا نتلمّسه في هذا النص لنعثر معه في هذه الرحلة اللغوية المتشعّبة على حجر الورد.
يحضر فيلم «ذهب مع الريح» في شخصية سكارليت زوجة السارد وتحضر عبارة النفري «كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة»، واقتباسات قرآنية وشعرية من الشعر القديم. تتّسع رؤيا حسين هنا لتشمل ثقافة واسعة من هذا العالم حتى لا تضيق العبارة فقط بل تفيض كما قال «محيطات أخرى ظلت فيه خارج العبارة». لا مكان متجانساً في لغة حسين. هناك أمكنة مختلفة وأزمنة مختلفة تتجمّع مثل فسيفساء جميلة تهدم منطق التراتب والتدريج لتعطي فكرة واسعة عن عالم يبنيه شخصٌ استثنائي يحلم بذلك قبل أن يكتب. العالم هنا حلمٌ كبير رغم أننا نعرف هذه الشخصيات أو ربما سمعنا بها. لكن حسين يجعل خبرتنا بها تتجدّد في نصه، لنعلم أننا داخل لغته الجديدة. وكما في «الفراغ الذي رأى التفاصيل»، يذهب حسين مرة أخرى ليرى «اللامرئي» في المكان، لكنه هنا يجعل هذه التفاصيل تتحدث على لسان هذا المعلم، فهذه الثقافة التي تتجمّع داخله هي معالم ثابتة في هذا المكان المتحرك والمتنقل وهي تتحدث فيه عن كل شيء بوضوح حالم، كأنها أسّست لعالم فكري يؤثّث اللغة والسؤال عن كل شيء. لقد أدرك حسين باكراً أن هناك ذائقة جديدة تتشكل في فلسطين وتبتعد عن الفن السياسي والجمعي، وأدرك أن قوّة السؤال واختلاف العالم الذي نعيش فيه اليوم قد ساهما في هدم القديم وبناء جديد آخر يستنطق قديماً آخر، لذلك يبدو في «حجر الورد» محاوراً لتلك الثقافة لكن بإيحاء جميل يبتعد عن الحكم والوعظ.
يمتزج العادي في هذه اللغة بالحالم «الاستثناء»، فتبدو الأشياء غريبة، كما يقول في لحظة نكتشف أنها يومية وعادية ثم تخرج من عاديتها فجأة: «وأخيراً رأيناه يتسكّع على الشاطئ، ويدخن غليونه التركي، ويصفر أسماء نساء عرفهن في وطنه الأصلي، وكلما لفظ اسماً حلّق الاسم فصار فراشة ذهبية تطير تحت قمر قديم، أو طائرة من ورق ملوّن، تصير طيوراً من الذّهب الأخضر، جداً تلمع بحدّة في الوعي». إنها لحظات متناقضة تشير إلى الخروج مما نعرفه، ومن اللحظة التي تبدو فيها الأشياء أليفة كأنها محاولة للعبور إلى كنف ذلك اللامفهوم والمجهول.
«حجر الورد» هو من أكثر القطع أثرية في العالم. حجر كبير من الغرانيت عليه نقوش باللغتين المصرية واليونانية، وقد كان حاسماً في فكّ الرموز الهيروغليفية المصرية من قبل الباحثين. لقد وضعنا حسين أمام نهاية نعلم أننا عثرنا عليه معه، فربما هو ذلك الحجر السري الذي يفكّك لغته وعالمه الواضح والغامض في الوقت نفسه، قائلاً لنا في فقرة أخيرة يسأل فيها هذا النبي ماذا تقرأه فيقول له: كتابي نفسي. وعندما أتى يتسكّع على الشاطئ، ويدخّن غليونه التركي، يسراه في جيبه وينظر إلى البحر، فنزلت إليه، خطوة خطوة، بحذر وسألته بسخرية: ماذا تقرأ؟ قال: «كتابي نفسي، فعثرت على حجر الورد».
لا تخبرنا لغة حسين بشيء ما أو تُلقي بين أيدينا ذلك الحجر الغامض بل تدخلنا في التجربة التي نكتشف داخلها تلك الأحجار ونبني عالمنا الخاص عندما نخرج من النص المفتوح على التأويل والقراءة والسؤال. إنها لغة للتجوّل والاكتشاف لا لإيصال المعنى، بل الغوص داخله لاستخراج معانٍ أخرى. لذلك، نتساءل في هذا النص عن أشياء كثيرة من هو المعلم؟ من هو السارد؟ هل تغير السرد أثناء الرحلة؟ هل عثر أحدهما على الآخر؟ النص يضعنا أمام تلك الأسئلة وكلّما أجبنا عليها، كان جوابنا لنا، فندرك أننا هنا حاضرون ونتعلم من هذه التجربة التي لا تتوقف على العثور على حجر الورد.