رهانٌ كبير، وهو على أغلب الظن رابح، يمكن وضعه على الدوخة التي سيصاب بها القارئ بينما تتسابق عيناه مع صفحات كتاب «الضوء الأزرق» لحسين البرغوثي. تدوخ وإذا بك تتلمس الأشياء من حولك لتتأكد من حقيقتها وتعود الى رشدك، لكنها المتاهة التي أنت بصددها: فالأشياء التي يسردها البرغوثي حقيقية. الشعور بالدوخة كأنك على سبيل المثال، تقف جامداً وسط دوامة تدور، وتدور، وتدور بينما أنت تحدّق لاإرادياً في حركتها. وعندما تمعن النظر فيها أكثر، تتّضح لك التفاصيل، فتشرع في تركيبها بنسيج متناغم قبل أن يصيبك الإغماء. الدوخة لا الزيغ، ولو تعرضت العين للانهماك، بسبب ملاحقتها نثر البرغوثي السريع والملتهب، السائل والمكثف، الدقيق والمتشظي.
النظر المنهك من «الضوء الأزرق» مُضاد للعمى، بل إنه المفتاح لباب الرؤية. الدوخة أو الشعور بالدوار، لاذع وسريع، وهو فريد وله دمغته الخاصة: لا يمت بصلّة للرعب القادم من الحرية كالذي أطاح بكيركيغارد، وعصري أكثر من ذاك الذي وصفه المتنبي «على قلق كأن الريح تحتي». دوخة كصفعة فجائية لا تتوقعها. مفاجئة لا ينتهي أثيرها. دوخة أو بالأحرى دهشة عارمة أو بالأحرى طفح ذهني جرّاء منسوب مرتفع من الأدرينالين الذي يوفّره سيلان السرد.
الكتابة عند حسين البرغوثي حفر وتنقيب، ولوج إلى الداخل بشجاعة مجنون، وتحملق، بعينيّ طفل لا يعرف «العادي» أو الرتابة في أحشاء الخارج وما يتجلى عنه من ظواهر. الكتابة عنده كالرقص، شغف تمتد رعشته إلى كل مفاصل الجسد. والكتابة عنده أيضاً كالبكاء، نثر مصاب بالقلق، مونولوغ طويل يلقيه أحدهم بحنقٍ أو بحالة رجفة. يكتب البرغوثي بالصوت، وأصواته متعددة، لا تسمعه بالأذن لكنك تسمعه في الرأس. على هذا النحو، تجرّ كل نبرة معها موضوعاً وشكلاً وحكاية و... ذات. فكتابته هي كاتبها، وتعددها هي تعدده. أما لغته فحادة كقبضة يد ملاكم تمسك برقبة المعنى وتعصره. دماؤها نهر فائض من التجربة، تستعين بالرمز أو الأسطورة أو سلاسة القول، وأحياناً هي مزيج من هذا الجمع المركب في مقطعٍ واحد كأنها خلطة كيميائية. فالرؤية عنده هي الغاية والوسيلة معاً، وعليه، فكل الأدوات متاحة لمنع الأبصار من الحجب.
هي لغة مفرطة في الصدق أكثر مما يحمله الأدب، أو أكثر مما يتحمّله الأديب. ذلك أن البرغوثي، في «الضوء الأزرق»، خرج من المكتبة، ومن حرم الجامعة ولحق بالأدب، عارياً، في الدهاليز المعتمة ومنازل لا تنام وشلّة أصدقاء سُفليين خارجين من طور قصيدة غينسبورغ «عواء».
ليس الأدب بالنسبة إلى البرغوثي شكلاً هندسياً مجرداً أو موضوعاً مستقلاً قائماً بذاته، إنما هو حاملٌ للمواضيع. لم ينظر إلى الأدب، بل عاشه كما عاش الأدب فيه. خطا في «الضوء الأزرق» على طريق محمد شكري بما فعله، إبداعياً، في «الخبز الحافي». وكما نقل وليام بوروز، بجُملته التي تحمل تنهيدة أنفاسه، حياته. حدث ذلك بعلاقته مع المطرودين والمرفوضين والمهمشين؛ في تذوقه للبيتزا المرمية في سلة القمامة، في نوبات وجودية نهش الارتياب فيها روحه، وفي مئة وتسع عشرة صفحة من السرد المتفجر. تجريبه مُفرط بالتجريب.
تقرأ ما يُسمى بالسيرة الذاتية، فتستخلص أنها نصٌ واحد، مكتوب بانسيابية على نفس واحد غير متقطع بالرغم من التقطع الذي أصاب التسلسل الزمني الذي لم ينصع الكاتب لقواعده في البناء. التدفق الكتابي في تكريس «الحالة» كان كافياً لتكون الأماكن والأزمنة، في «الضوء الأزرق»، شكلية. بيد أن المكان والزمان الحقيقيين له هما الذكريات والحركة الدائمة، بقناعة مماثلة للإغريق القدامى الذين رأوا بالزمن سيرورةً لا تنتهي والذي بدوره رأى مثلهم، وبمساعدة من صديقه «بري»، أن الداخل أي النفس البشرية، وعاء مكتنز بالحكمة وأن الأثر التراجيدي مولّد للمعرفة.
والسيرورة قافلة تترك وراءها أحداثاً. من هنا كانت تجيء قصص البرغوثي في سياق تحضُر فيه الشخصيات، ليشكل حضورها ذريعةً أدبيةً، حجة مُقنِعة للكتابة. لعبت وظيفتها كسند داعم يعزّز تنقله السردي في الأحداث وبين المواضيع. كانت وجوهاً مثل نافذة يطل منها ليقذف ما لديه ويفصح عن وجوهٍ أخرى. وما جرى، في أغلب الأحيان، أنه أطل من تلك الوجوه ليرى نفسه عارياً، فأفصح عن وجهه العاري وكان نصه هو النافذة.
خطا على طريق محمد شكري في «الخبز الحافي»


في «الضوء الأزرق»، وهو وثيقة أرشيفية للمُعاش عند البرغوثي، خرج الأخير عن نفسه أيضاً. لكن خروجه طوعي ومتعمّد، فتلقاه يكمن بين سطوره أمامك: رشيقاً، غير مستقر، لا يهدأ «أنا أفكر يا بري، أفكر، أفكر، أفكر». أنت أمام قوّة ملتبسة مشحونة بالإشارات وغنية بالإحالة، هي السراديب التي يتنقل فيها البرغوثي في نصّه ذهاباً وإياباً في لعبة تشبه المد والجزر. بالكتابة كتدوين وبالتأمل كاعتراف، تبدأ من قعر عالمه الداخلي محتكاً مع العالم الخارجي شعراً وسرداً حيناً، كما تبدأ، أحياناً، من عالم الخارج بالوصف والنثر مولجاً نحو الداخل. في حال قررت التعرف على من يكونه وقرأت القليل عنه، ستجد أنه كان في حياته شاعراً وناثراً وفيلسوفاً وإنساناً لقي نفسه خارجاً عن طور التقليد.
نقطة البداية عنده غائبة، فبدؤه هو التفتيش. على هذا المنوال، يبدأ في السطور الأولى في كتابته في التفتيش في داخله عما يعنيه له «الضوء الأزرق» وفي البحث عن معنى هذا الضوء في الأساطير وفي الحكاية. يمتد هذا الجفول ليصل الى مواضيعه. فثيماته متعددة والحبكة غير موجودة، البرغوثي يلاحق نفسه ويركض وراء روحه من دون أن يهلك. قلبه الذي التهمه الجفاف لا ينبض، لكنه، بشاعريته الهشّة يتفوّق على قلوب الأحياء. ما هو، فعلاً موجود، هي الكينونة التي تتجلّى في إطار تفتيش صاحبها عنها. يفتش عن معنى الضوء الأزرق في الكتب ويفتش عن انعكاسات هذا الضوء ــــ وعن نفسه ــــ في الحدائق والشوارع والهزّات العصبية التي تعتريه. هكذا، يجمع بين معنى الشيء وشكلهِ، فتُرسم ملامحه الخاصة، ليغدو أشبه بشخصية مشتقة من سلالة شخصيات الرواية.
ومصير هذه الشخصية مهجوس بسؤال الهوية. الهوية الفردية، أناه الخاصة، ومغزى ترحاله الدائم بمسلّمة أساسية هي أن السائل لا يغلّب الأبيض على الأسود ولا يختار بين نقيضين. لكنه، في الوقت عينه، ليس محايداً «وحتى التورط في عدم التورط ليس حياداً، برزخ الحياد لغز». فعدم الانتقاء عند البرغوثي هو ضرورة للتأليف، الوقت المناسب للإبداع في «خلق شيء جديد لكل ليلة». هكذا تغدو الذات عنده مزيجاً مركباً، إقراراً إراديّاً حراً، «تصميماً معيناً» وبشكل تقني أكثر كعملية تشبه الكتابة: صناعة.
البرغوثي الذي تؤرقه الى حد الوسواس القهري تلك المسافة الفاصلة الحساسة والموحشة بين رجائه الخاص للتماسك والبقاء متعقلاً وخوفه حتى الهلع من أن يصبح مجنوناً، وأن تربح الثانية وتجهز على الأولى، يتضح، في ما بعد، أن كابوسه الحقيقي الذي لا يستطع منه فكاكاً هو هذا الخيط الفاصل بين النقيضين. فلا مشكلة لديه مع الجنون «ومن اللطيف أن الجنون مغر، غريب كم كان يجذبني، كم كنت أرغب فيه، وأنوي عليه، ولكل امرئ ما نوى»، بيد أنه مغرم بالصحوة «كنت أرتجف إلى درجة أنني كنت أعي كل شريان دم في جسدي، وكل عصب، فيض من الطاقة الاستثنائية، كنت أرقص مثل دمية، غير قادر على الوقوف الطبيعي... فاستلقيت على صخرة تحت أول الأشعة وغفوت حالاً من شدة الإرهاق. كم شعرت بالأمان، كم شعرت، لما انتهى الليل». إلا أن ما يريده حقاً هو القبض على الوعي. إذاً، إن ما يبدو لنا التباساً هو، بالنسبة إلى البرغوثي، المألوف. فالأخير لا يتعاضد أو يتناقض بل يتقاطع ويتماهى. إيمانه الذي، ربما، يبقيه على قيد الحياة، هو التجاوز. بهذا الأسلوب، تأتي التوليفة، ولو أنها نتيجة شاقة أتعبها التجول في طريق وعرة، فالضوء لا يسطع من دون عتمة، وفي حالة البرغوثي، الجنون هو أقصى درجات التعقل، فيما التعقل يحمل رغبة عارمة للجنون.
يسير البرغوثي بيقين أن القاعدة الأساسية والتي تعلّمها من بري «افهم وميّز»، فيعلو الدرج خطوةً خطوة وصولاً إلى أن تعي الذات على ذاتها. إنها تجاوزية قادمة من المحايثة، وليست من التعالي الميتافيزيقي، ولو بدت نصائح بري وأحاديثه أشبه بطلاسم وشيفرات، لكنها دروس مكثفة من فيلسوف مجنون اختار التشرد. ولمن لا يعلم، بري هو حامل المصباح الذي يسطع منه الضوء الأزرق، هو «الآخر»، الحالة الشرعية للبرغوثي مجنوناً. أفكاره كإشراقات رامبو وفلسفته اشتقاق من ظاهراتية هوسرل القائل «اعطني فنجان قهوة فأصنع لك فلسفة». بري الذي رأى أن الذهن «فنجان ذهبي ومن طبيعة ذهنك أن يكون فارغاً ومن طبيعة الفراغ أن يكون قابلاً لأن تصب فيه أي رأي أو نظرية» متوجهاً للبرغوثي الذي يختبر «حُضور الأشياء»، إذ هو يناشده «بالقصدية»: بانطلاقة كسهم ملتهب يسير إلى الأمام، نحو الأشياء وإليها. هي دعوة الى التوغل في باطن الأشياء نفسها لاستنباط المعنى من دون أن يخلط بين الإدراك والمعرفة، أو بكلمات بري «التمييز بين الذهن ومحتواه» أو «الذهن هو ممكناته وليس ما فيه». ما نراه، بفعل المنطق تناقضاً، يراه البرغوثي أسلوباً، وما نعتبره انشطاراً يعتبره تعدداً وإثراءً. لذلك كان تفتيش البرغوثي عن نفسه وفي تصميمه لهويته، أي خلقها، مُجدياً. ولذلك أيضاً كانت كتابته الخام التي انطلقت من دون الالتزام بأشكال وموروثات مسبقة، كيميائية.
للبحر، ولونه الأزرق عشقٌ لدى البرغوثي منذ الصغر، هو الذي جزع منه عندما كان صغيراً. البحر هو اللامتناهي الذي لا حدود له، هو السيرورة الدائمة، وهو الذي يقفز فوق الأضداد فارضاً إيقاعه. يصلح البحر ليكون مثالاً حقيقياً عن حسين البرغوثي؛ الدموع كمياه مالحة، الموج كانفعال والحزن العميق الذي يكرّسه توهج ضوء القمر.
وللبحر أيضاً دلالة على الاغتراب. فبقدر ما تبدو حواس البرغوثي متوهجة، بقدر ما هي معطلة جراء نوستالجيا مفعمة، وحساسية فائضة، وطمأنينة ضائعة. أما الاستيقاظ مع كل هذا الحمل، فثقيل. والثقل إذ هو، تداعيات الاغتراب، وهذا بدوره غرق البحر في كآبته. إنها الجزية التي يتكلفها العقل اليقظ، الذي يعي حضوره بنفس درجة تفتحه على حضور الأشياء، ولا يرضى بفهمها كما تقدم نفسها، بل يخضعها للتمحيص، ثم للتجربة بغية إدراكها. وهي الصرخة الخارجة من قلب عجز عن متابعة مشاهد القسوة. الاغتراب؛ روح البرغوثي التي ترى في السؤال (الدائم) منزلاً، فيما أبواب الإجابة مغلقة أو في حالة تأجيل. هو وحشة الحنين لرام الله أثناء وجوده في سياتل. هو توقه للخلاص في تصميم نفسه بنمط عيش مصاب بالدوخة، فيه ما فيه من البحث الدائم، والتفتيش، والتنقيب، بطريقة أصلية تصنعها الذات بقرار شخصي لا يفرضه عليها العالم. لكن مهما بدا السعي للتوفيق بينهما حثيثاً، إلا أن مصيرهما يغدو مُضاداً لا يلتحم، أو كما عبرّ ريلكه «هذا العالم ‏نُشيِّده فينهار ‏ثمَّ نُشيِّده ثانيةً ‏فننهار نحن».
ضوء البرغوثي هو ترسبات للأمل، إشعاع على حاضر بحالة اغتراب من ذات واعية على اغترابها. والأزرق هو نداء قادم من بعيد، من صوت يكتب لاستئصال قلقه المتأصل فيه، نسمع صدى استغاثته في كتابة حسين البرغوثي. وإذ بدا هذا الصوت قريباً، إلا أن صاحبه يبقى في مكانه، لا يفعل شيئاً سوى الكتابة، والكتابة والكتابة التي لا تنتهي إلا مع موت صاحبها.