الكتابة عن الشاعر والقاص والناقد الفلسطيني حسين البرغوثي هي الكتابة عن مشروع ثقافي فلسطيني واسع وشامل، سعى البرغوثي من خلاله إلى تغيير الخريطة الأدبية العربية الفلسطينية، محاولاً استكشاف التفاعلات المركبة للوجود من أجل الوصول إلى ماهية حياة مستمرة ومتحركة، تسير في منحى مستقبلي لا يعرف الهدوء ولا المعايير الثابتة. هذا المشروع بحركيّته الدائبة يصطدم والثابت المنبعث من إرهاصات ماضوية تحاول الإبقاء على وضعية المسلمات القبْلية الثقافية والوجودية. لذا فهو ينحو، أولاً، منحى الغوص في أعماقٍ إنسانيةٍ لاستجلاء حركيّتها، وثانياً، منحى الفردانية والشخصانية التي تميّز الفرد عن الجماعة، وتعيد تعريفات انتمائه إليها. من هنا، تقوم هذه العجالة على استقصاء فاعلية هذا المشروع الجريء والمصطدم والمتمرّد بخطوطه العامة، من دون الغوص في تفاصيله. فقد أسّس البرغوثي مشروعه ضمن تخبّطات أدبية وثقافية واسعة، في إطار البحث عن الهوية الفردية والقومية، أو السياسية، أو الاجتماعية.
مارس البرغوثي العديد من الأنواع الأدبية في سيرورة كتابته القصيرة والمكثفة والغنية في آن. كان همه الشعري مثلاً ينحصر في بداياته باستقاء المعرفة التراثية الشعرية والثقافية العربية، فنظم الشعر التقليدي بتصرف وفق النظام الإيقاعي، غير آبه بالشكل، إنما بالاستزادة من هذا التراث كطريق للعبور. هكذا جاءت مجموعته الأولى «رؤيا» عام 1988 بلغة مختلفة وإيقاعات متوارثة، حاول أن يتصرف بها كشاعر يقدِّر المعرفة التراثية، ويناور، في الوقت نفسه، مقوّماتها ومركّباتها الأساس. إن الرؤيا الكاشفة عن خبايا الكون كمفهوم شعري طوّرته مجلة «شعر» اللبنانية في ستينيات القرن المنصرم، لا يمكن إلا أن تكون مختلفة عن التعامل مع قشور الوجود. من هنا لا يمكننا اعتبار «رؤيا» مجموعة تقليدية ومألوفة، بل تحتوي على بذور التمايز ورؤية الباطن العميق؛ رؤية الحقيقة. وفي طريق العبور، تجاوز البرغوثي التقليدي نحو قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر المتحررة ليس فقط من الإيقاعية التقليدية وإنما المتحررة من القيود الأبوية الشعرية والتعابير المقولبة، ضمن منظومات ثقافية مفروضة مسبقاً. أضاف هذا التحول عند البرغوثي الكثير إلى شعره، من حيث الإيجاز وتكثيف تصوراته لما أسماه يوسف الخال «مشكلات الحياة الكبرى».
جاءت مجموعته الأولى «رؤيا» عام 1988 بلغة مختلفة وإيقاعات متوارثة


في مجموعته الشعرية الثانية «ليلى وتوبة- قصائد من المنفى إلى ليلى الأخيلية» التي أصدرها عام 1993، يتناول البرغوثي مسألة الصياغة اللغوية الشعرية من منطلق تحويل التعبير الشعري والثقافي الفلسطيني إلى تعبير يثير القلق ويبحث عن العمق. هذه المجموعة التجريبية الأولى عند البرغوثي، برأيي، تطرح مقولة التحدي الأدبي الجادّ الذي ينحو بالأدب العربي، والفلسطيني منه على وجه الخصوص، نحو مفهوم التأمل الوجودي الباطني الفلسفي الأبقى للتعامل مع المسألة والكينونة الفلسطينيتين. تقوم الصياغة اللغوية، التي تبلورت في هذه المجموعة، على التجريب اللغوي المفارق، بل والمتحدي للأنساق الكتابية الفلسطينية المتعارف عليها. إنها لا تمكّن القارئ من العبور السريع على سطح القصائد، بل تلزمه الغوص في رؤى لغوية صعبة وغامضة لمحاولة فهم الكينونة الفلسطينية بشكل أعمق. من هنا غاص البرغوثي، في مجموعته الشعرية الثالثة، «توجد ألفاظ أوحش من هذه»، عام 1998 في مكوّنات الحلم في محاولة لاستشفاف عناصر الذاكرة اللغوية المغايرة لمركّبات الحياة الفلسطينية، تلك التي تنحرف عمداً عن مسار التعبير الأدبي الفلسطيني المألوف في تلك الفترة، من أجل تأسيس شعرية متحدية للوضوح القاتل الذي كان البرغوثي ألد أعدائه. في مجموعته الرابعة «مرايا سائلة » عام 2000، يكمل البرغوثي في مسارات تحفّظه للواضح «القاتل»، إذا صحّ التعبير، ويلتجئ إلى التعبير الحدسي المتحرر من القيود المنطقية العادية، كأنه في تبنيه للحدس، يتجاوز حواجز التعبير والقول نحو تحرر كامل. إن مسارب التحرر هذه هي على ما يبدو المسألة الأهم في كتابة البرغوثي في كل ما كتب، والتفكير الحدسي في مجموعته الأخيرة، هو إشارة مهمة لما تمثله الحرية كقيمة مطلقة في مجمل أعماله. ما قدمه البرغوثي من كتابة شعرية يتجاوز الشعرية التقليدية الفلسطينية، بل يتجاوز الشعرية الفلسطينية الحديثة ليصبّ في إنتاج نصوص شعرية وغير شعرية عابرة للأنواع الأدبية. نصوص منتهكة ومخترقة للتعريفات المتعارف عليها. لا يمكننا التغاضي عن القيمة الأدبية للبرغوثي الذي تغافلت عنها المؤسساتية الثقافية العربية والفلسطينية. وعلى الرغم من بعض الدراسات التي تناولت أدبه، خصوصاً بعد وفاته، إلا أنّ مشروع البرغوثي لم يُنصف نقدياً. يمكن للبرغوثي، برأيي، أن يكون بامتياز وحصراً صاحب القدرة الأدبية لكسر طوق النقد الأدبي الفلسطيني الموجَّه، واختراق قدسية تناول الشخص الواحد أو الشاعر الواحد والأوحد بالنقد، وهو عارض من عوارض أزمة النقد الثقافي الفلسطيني خاصة والعربي عامة، الذي ينحصر ضمن شخصيات متداولة ورموز أدبية معروفة، ويتجاهل عمداً أو عن غير عمد بقية مركّبات هذه الحركة الثقافية الواسعة. إن الحركة الثقافية والأدبية التي تعتمد على شخوص محدّدة، لا يمكنها البتة فهم السيرورة الأدبية الحقيقية التي تمثلها، بالتالي لا يمكنها فهم عمق الوجود الثقافي الفلسطيني أو العربي. حسين البرغوثي الذي اختار قرار الصمت، وفي كثير من الأحيان، كمشروع حياة بديل، يمثّل الطرح المتحدّي بعمق للتيارات المركزية المسايرة. مشروعه الثقافي المتنوع وعلاقته بعنصري الزمان والمكان هما بمثابة صراخ في صحراء، قلّة مَن سمعته بعمق.
يمكن للشعر أن يكون ترياقاً عنده ضدّ الانحدار نحو الممارسات القمعية والظلم. عزّز البرغوثي، أكثر من مرة، العلاقة بين الفلسفة والشعر والفنون الجميلة التي خاضها، وهي الصلة نفسها التي وضعها هايدغر في قلب أفكاره. ممّ تتكون هذه العلاقة؟ لطالما اعتقد البرغوتي في ممارسته الثقافية العامة أن الفلسفة والشعر ليسا جوهرين منفصلين، بل قوّتان تميلان إلى المجال المتميّز للغة في اتجاهين متعاكسين: المفهوم/ المعنى الصافي والصوت النقي. لا شعر وكتابة من غير فكر، كما أنّ لا فكر من دون لحظة شعرية. إن البحث عن الحقيقة في مشروعه الثقافي هو أساس متين، لذا لطالما اعتمد على فقه اللغة ركيزةً أساسيةً في كتابته، لأن فقه اللغة والفلسفة، وحب الكلمات وحب الحقيقة متشابكان. فالحقيقة تكمن في اللغة، والفيلسوف الذي يهمل هذا المكان هو فيلسوف مزيف، كذلك هو الشاعر، على حد تعبير جورجيو أغامبين. الفلاسفة، مثل الشعراء، هم أولاً وقبل أي شيء حرّاس بوابات اللغة، وهذه مهمة سياسية حقيقية، لا سيما في وقت يشهد بكل الوسائل طمس وتشويه معنى الكلمات.
إن مشروع البرغوثي الثقافي المتنوع، في الشعر («رؤيا »، «ليلى وتوبة- قصائد من المنفى إلى ليلى الأخيلية»، «ألفاظ أوحش من هذه»، «مرايا سائلة»)، والنقد («أزمة الشعر المحلي»، «سقوط الجدار السابع»، «الصوت الآخر»، «السادن»، «الناقة») والرواية («الضفة الثالثة للأردن») والمسرح («المزبلة»، «موسم للغرايب» ، «وجوه» ،«حفلة على غفلة»، «لا لم يمت»)، ونصوص السيرة التي تحمل أبعاداً فلسفية وشعرية عميقة، («الضوء الأزرق »، «سأكون بين اللوز »، «الفراغ الذي رأى التفاصيل») و «حجر الورد» نصه ما بعد الحداثي، مشروعه المتنوّع هذا مشروع تدمير، يتبنى فيه البرغوثي الغموض الشائك والتراكيب اللغوية المركبة القادرة وحدها على فهم العالم الضبابي الذي يحياه إنسان هذا العصر، إذ «لا إبداع من دون تدمير» على حد قوله، لا إبداع من دون انتهاك الوضوح والتصريح، المسببين الأوضح لتسطيح الوجود.
هذا المشروع الثقافي المتنوع هو جدلية متشعبة للمكان والزمان، محاولة في فهم العلاقات غير العادية مع الأمكنة الذاتية والموضوعية، والعلاقات المبهمة مع الزمان الموجود أو المسروق، أو ما أسماه البرغوثي بـ «خارج الزمان». هذه الجدلية في كل مؤلفاته تصغي لصوت المتسكع أو الشريد الحديث المتنقل عبر المكان والزمان الذي يشوّش الثقافة (Culture Jamming) الاستهلاكية السائدة والفهم المسطَّح للعناصر الوجودية، الفلسطينية والعربية والإنسانية عامة.
* أكاديمي وباحث فلسطيني