من أجل معرفة من هو سيدني بواتييه (1927 – 2022) وما يمثّله في تاريخ السينما، علينا أولاً التوقّف عند تاريخ محدّد: 1968. بعد عام واحد فقط من السنة السّحرية لسيدني بواتييه، الذي شارك خلالها بثلاثة أفلام («إلى السير»، «مع الحب»، «في دفء الليل»، «خمّن من القادم إلى العشاء»)، أعلنت المحكمة العليا في الولايات المتحدة عدم دستورية قوانين مكافحة تمازج الأجناس التي كانت سارية في العديد من الولايات. في هذا المناخ الاجتماعي وجوّ الفصل العنصري والظّلم والنّضال من أجل الحقوق المدنيّة وفي حقبة كانت قبلة بين رجل أو امرأة سوداء وشخص آخر أبيض ضد القانون، نهض بواتييه. كان لمسيرته في السينما والنضال الاجتماعي تأثير هائل على الثقافة الأميركية. في الخمسينيات كان النجم السينمائي الأسود الأعلى أجراً والوحيد تقريباً.
خلال رحلته من الفقر إلى النجومية، احتفظ بالقيم التي رباه عليها والداه الفلاحان في جزر البهاما

مراجعة أفلامه في أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات تحتوي على الكثير من القراءة الظرفية وانعكاساً كبيراً لذلك الوقت. عام 1961، لعب دور رجل مصمّم على الخروج من الحي اليهودي في «زبيب في الشمس». حالة صراع شخصي لرجل أسود يُحارب التمييز والمجتمع الغريب الذي لا ينتمي إليه ولا يحبّه. وفي «زنابق الحقل» (1963) حيث حصل على جائزة الأوسكار لأفضل ممثّل، (للمرة الأولى في التاريخ يحصل عليها ممثّل أسود)، لعب دور العامل الذي يساعد الراهبات في الحقل، وكان بالنسبة إليهنّ كأنه الرجل الذي أرسله الله لمساعدتهنّ. في أواخر الستينيات، أصبحت أفلام بواتييه تأكيداً على هويّته ومطالبة بالاعتراف بها مثل فيلم «في دفء الليل» الذي كان مؤسّساً لمبادئ العدالة. أما «خمّن من القادم إلى العشاء» فكان شيئاً آخر، يتلخّص في جملة بواتييه الشهيرة إلى ابيه «أنت ترى نفسك رجلاً أسود، فأنا أرى نفسي رجلاً». مرّت السنون وتأكّدت أسطورة بواتييه للأبد. كان بالفعل الأكثر أناقةً وذكاء وكاريزما وحيوية على الشاشة.
خلال رحلته من الفقر إلى النجومية، كان دوماً يسعى للوصول إلى القيم التي ربّاه عليها والداه الفلاحان في جزر الباهاما. مارس بواتييه مهناً مختلفة قبل التفوّق في المسرح والنّجاح على الشاشة الكبيرة وكسر الحاجز العنصري في هوليوود. ولد في الولايات المتحدة، وحصل على الجنسية بعد القبض على والديه في ميامي. مستفيداً من جنسيته المزدوجة، كان يعود إلى الولايات المتحدة ويعمل في أي شيء لإرسال الأموال إلى والديه. كذب بشأن عمره للالتحاق بالجيش وشارك في الحرب العالمية الثانية كمساعد طبي. عندما تخرّج، استقر في نيويورك وخضع لاختبار في المسرح الأميركي الزنجي. فشل في المرة الأولى لأنه بالكاد كان يقراً بما يلزم من خداع بسبب لهجته الباهامية القوية. كان وقتها ينام في الشوارع ويعمل في أيّ تجارة وأُصيب في ساقه أثناء التظاهرات في هارلم. موهبته الهائلة دقّت أبواب برودواي ومنها إلى هوليوود وفتحها على مصراعيها لأجيال قادمة.
الجانب الأكثر إثارة كان في رمزيّته السياسية والعرقية، من نواح عديدة تشابكت حياته على الشاشة مع حياة حركة الحقوق المدنية ومارتن لوثر كينغ نفسه. كان دائماً يحبّ الشخصيات والأدوار المتمرّدة والحازمة بهدوء. دخل التاريخ بصفته أسطورة فنيّة واجتماعية ونضاليّة أكثر من كونها واحدة من آخر أمجاد هوليوود القديمة. مسيرة بواتييه تجسيد للحكمة الحزينة القائلة بأن النجاح في عالم معاد لا يجب أن يكون جيداً مثل الآخرين فقط، بل يجب أن يكون أفضل بكثير منهم. لُقِّب بواتييه خلال مسيرته بـ «السير»، لم تعطِه إياها الملكة البريطانية، إنما السينما.