تدعونا الكتابة عن المشهد الثقافي اللبناني خلال سنة 2021 ، إلى القيام ببحث يشبه التنقيب عن الفعّاليات التي خفتت هذه السنة. فقد خسرت العاصمة والبلاد عدداً من المواعيد الأساسية التي شكّلت، رغم كلّ الملاحظات والدعوات إلى التطوير، جزءاً من هُوية المشهد المحلي الذي لم يكتمل في هذا العام، بل ظلّت فعالياته ومواعيده وعروضه تحاول الصمود أمام كلّ ما نشهده. وربّما تأتي الأزمة كفرصة لإعادة النظر في خلل قائم منذ أعوام، منه تمركز الفعّاليات الفنية في العاصمة اللبنانية، والمدارة من قبل عدد ضئيل من المؤسسات الثقافيّة. ظهر كلّ هذا دفعة واحدة في السنة الماضية، التي بدت كما لو أنها تحصد ثغرات وفجوات السنوات الفائتة، تُضاف إليها التحوّلات الكبيرة التي بدأت منذ انتفاضة تشرين الأوّل 2019، والأزمة الاقتصادية التي بلغت ذروتها هذه السنة، وانفجار المرفأ الذي طاول عدداً من الفضاءات والغاليريهات، والوباء الذي حتّم على بعض الفعاليات الانتقال إلى الفضاء الافتراضي. لهذا تمثّل جزء من التحدّي في ترميم هذه الفضاءات كخطوة أولى من أجل عودتها إلى العمل، خصوصاً تلك القابعة في الأحياء ذات الطابع التراثي في بيروت ولا تزال تشهد ورشة ضخمة لترميمها والحفاظ عليها.
برهان علوية

أمام هذا الركود الكبير مقارنة بالسنوات الماضية، اقتصر التحدّي الأكبر بالنسبة إلى بعض المواعيد على الاستمرارية التي لطالما كانت هاجساً في السابق. هكذا وجدت بعض الفعاليات سبيلاً إلى الاستمرار عبر منصّات إلكترونية، مثل مهرجان Bipod للرقص المعاصر، فيما أخفقت فعاليات أخرى في ذلك مثل «معرض بيروت العربي الدولي للكتاب»، والمهرجانات الصيفيّة، فضلاً عن انحسار عدد العروض السينمائية، والمسرحيّة والموسيقيّة. مع هذا واصلت الأعمال الفردية عروضها من قبل الفنانين الذين يصرّون ويتمسّكون بالعمل في لبنان كوسيلة وحيدة للبقاء.
غادرنا برهان علوية، إيتل عدنان، عناية جابر، جبّور الدويهي، بولس الخوري وسماح إدريس


سينمائياً، غادرنا المخرج اللبناني برهان علويّة بعد مسيرة طويلة. وقد شكّل رحيله خسارة كبيرة، على المستوى الوطني، لكن ما يعزّي هو تركته السينمائية، وتجربته الروائية والتسجيلية التي اختمرت في عزّ الحرب وأحداثها مع عدد من السينمائيين الآخرين الذين غادرونا في السنوات القليلة الماضية أمثال جان شمعون وجوسلين صعب. جيل سينمائي كامل يترجّل، مقابل خروج تجارب جديدة منها «البحر أمامكم» لإيلي داغر، ووثائقي «إعادة تدمير» لسيمون الهبر، و«كوستا برافا» لمنيه عقل، فيما انصرف عدد من المخرجين إلى تفجير المرفأ في أفلام قصيرة عرضتها منصّة «أفلامنا». منذ انتشار الوباء، فرضت «أفلامنا» نفسها كمنصّة أساسية، بعرضها أفلاماً عربية كلاسيكية، وأخرى حديثة لمخرجين شباب. هكذا حافظت طوال العام على عروض الأفلام الشهريّة مجّاناً، كنافذة بديلة وملحّة أمام الانتكاسة التي تعيشها صالات السينما التجارية في العاصمة، التي قلّصت عدد الأفلام المتاحة، كما انخفض عدد روّادها نتيجة الارتفاع اللافت في سعر البطاقات. كذلك، واصل «مهرجان مسكون» لأفلام الرعب والخيال العلمي فعالياته افتراضياً، وأقيم «مهرجان بيروت للأفلام الفنية الوثائقية» في «مسرح مونو» قبل أن يواصل برمجته على المنصّة الإلكترونية، وكان مهرجانا «السينما الألمانية»، و«شاشات الواقع» اللذان أقيما في أماكن مختلفة فرصة لاستعادة أمسيات ومهرجانات سينما «متروبوليس» التي أغلقت أبوابها قبل عامين. كذلك، أصرّ «نادي لكلّ الناس» على إقامة فعاليات «مهرجان الفيلم العربي القصير» الذي عرض أحدث التجارب الشابة، مع استعادة لبعض الأفلام لروّاد السينما اللبنانية.

«كما روته أمي» لعلي شحرور

مع نهاية السنة الحالية، ودّعتنا الشاعرة والرسامة إيتل عدنان في باريس، بعدما كانت قد ودّعت بيروت بمعرض «انتفاضة الألوان» سنة 2019. الخسارات طاولت أيضاً الوسط الأدبي مع الرحيل المفاجئ للشاعرة والصحافية عناية جابر، وغياب الروائي اللبناني جبّور الدويهي، والفيلسوف بولس الخوري، والناشر والمؤلّف اللبناني سماح إدريس. افتُتح العام برحيل الموسيقي اللبناني الياس الرحباني، وطاول الفقد المسرح أيضاً، حيث غادرنا الفنان اللبناني بيار جاميجيان، والممثّلة اللبنانية رينيه الديك، بعد معاناة طويلة من المرض ومن إهمال الدولة على السواء. المسرح ليس في أفضل حالاته رغم التجارب المتفرّقة التي احتضنتها مسارح «المدينة»، و«دوار الشمس»، و«مونو» وفضاءات أخرى، إذ تخوض المسارح صراعاً من أجل البقاء. مع هذا، ظلّت قادرة على استقبال العروض التي أبصرت النور بفضل الإصرار، وبفضل المنح، وبعض المحاولات المحليّة لإنقاذ الفضاءات المسرحية بعد تفجير المرفأ كما في «تجمع إغاثة المسرح في لبنان». هكذا عرضت «رسائل حب» للينا أبيض، و«ثماني شخصيات تمثّل المفتش العام» لماريان صلماني، و«الفصل السابع» لمحمد عيتاني، و«وحدي» لفاديا التنير، و«جثّة متنقّلة» لشادي الهبر، و«نوم الغزلان» و«كما روته أمي» لعلي شحرور، و«يوم لم ينته» لعلاء ميناوي، و«الثقب الأسود» لهاشم عدنان. واختُتم العام مع برنامج عروض وأمسيات دعماً لـ «مسرح المدينة» كمحاولة لإنقاذ القطاع المسرحي بالتعاون مع مبادرة «حسن الجوار»، فيما كان فرصة لكي تعلن نضال الأشقر استمرارية هذا الفضاء المسرحي، إذ أطلّت الأشقر على الخشبة من خلال إعادة عرض «مش من زمان» ضمن البرنامج الذي تضمّن أيضاً أمسيات موسيقية وعروضاً مسرحية أبرزها «المعلّقتان» من إخراج لينا عسيران.
المسرح ليس في أفضل حالاته رغم التجارب المتفرّقة التي احتضنتها مسارح «المدينة» و«دوار الشمس» و«مونو»


من ناحية أخرى، شكّلت 2021 عودة فضاءات الفنون التشكيلية إلى العمل، بعدما تعرّضت لخسائر هائلة جرّاء انفجار المرفأ. «غاليري صفير زملر» افتتحت أبوابها مجدّداً، مع معرض استعادي لأحد روّاد المحترف التشكيلي عارف الريّس، فيما توزّعت المعارض الفنية التشكيلية الجماعية والفردية على غاليريهات «تانيت»، و«أجيال»، و«جانين ربيز»، و«مينا» و«مركز بيروت للفن»، و«دار النمر». احتضنت هذه الفضاءات معارض لفنانين من كلّ الأجيال والممارسات الفنية التي تنوّعت بين اللوحات والتصوير الفوتوغرافي والفنون المعاصرة. شاهدنا معارض لجميل ملاعب، وريم الجندي، وسمر مغربل وشذا شرف الدين وغادة الزغبي ومازن الرفاعي ،بالإضافة إلى معارض جماعية منها «معاً» في «غاليري تانيت»، و«صندوق الفرجة» في «دار النمر». استقبلت بعض هذه الفضاءات والغاليريهات الدورة الأولى من «مهرجان الشرائط المصوّرة»، الذي جمع بدوره تجارب محليّة وعالمية في فن الكوميكس، كان أبرزها معرض الفنان اللبناني جورج أبو مهيا، بالإضافة إلى معرض يرصد أحدث التجارب العربية في هذا الفن خلال العقد الفائت. وقد حضر الفن التشكيلي اللبناني في باريس، عبر معرض جماعي أقامه «معهد العالم العربي» بعنوان «أضواء لبنان – الفن الحديث والمعاصر من عام 1950 حتى اليوم» في ذكرى انفجار المرفأ، يحتفي بالمشهد الفني اللبناني منذ أربعينيات القرن الماضي وحتى اليوم بعرضه أعمال رواد المحترف التشكيلي المحلّي مع أحدث الإنتاجات الفنية لفنانين معاصرين. وقد خسر المحترف التشكيلي الكاتب والناقد الفني سيزار نمور، الذي وثّق وأرّخ للفن اللبناني الحديث أكان من خلال المؤلفات أم من خلال متحف «مقام» لفن النحت اللبناني الحديث المعاصر الذي افتتحه في منطقة جبيل قبل أعوام.

«البحر أمامكم» لإيلي داغر

ومع غياب معرض الكتاب، انكشف النقص في الفعاليات الأدبية في البلاد، تُضاف إليها التحديات المستجدّة أمام دور النشر اللبنانية التي باتت تواجه مآزق عدّة جرّاء الارتفاع الهائل في سعر صرف الليرة مقابل الدولار. مع هذا، خرجت بعض الإنتاجات الأدبية أبرزها «أن تعشق الحياة» للروائية اللبنانية علوية صبح، و«عندنا الآهة والأغنية وجارنا المطرب الصدى» للشاعر اللبناني شوقي أبي شقرا. أما موسيقياً، فقد استمرّت العروض بخجل ضمن المسارح منها «مترو المدينة»، وقد تمثّل الحدث الأبرز في مهرجان «بيروت ترنّم» في فضاءات وكنائس عدّة في المدينة، خصوصاً مع غياب البرمجة الصيفية للمهرجانات التي كانت فرصة للقاء التجارب العالمية والمحلية.