احتضن «مسرح المدينة» أخيراً عرض «المعلّقتان» (عن نصّ حسن مخزوم وإخراج لينا عسيران، أداء: يارا زخور، سارا عبدو وجلال الشعار) الذي ترجمَ فيه مخزوم فكرته عن بؤرة ذهنية واقعية أعادت تدوير الحالة الإنسانية للمواطن اللبناني في أحوال الحياة وجدواها، والموت وأسبابه ومآلاته، وزيف بعض المجتمع في مظاهر وقناعات سخيفة. كل ذلك انطلاقاً من عطلٍ في مصعد يتناسب مع أزمة الكهرباء وملحقاتها الكارثية التي أصبحت مشكلة وجودية في حياتنا اليومية ضمن حبكةٍ تنهض على شخصية إيجابية كانت في المصعد سلفاً، وتحاول إظهار محاسن الحياة ومباهجها وفائدتها. فهي «معوّدة على العتمة لأنّي بحِبّ الليل» وترى «أنْ نواجه مصائرنا بفرحٍ وإيجابية على الرغم من سحابات الحزن العاصفة في مسيرة هذا العالم». أما الشخصية السلبية التي كانت في طريقها لأداء دور مسرحي في الطابق 16، فترى أن لا فائدة من الحياة، وهي تتذمر من كل شيء: «أخخخخخخ ليش حظّي هيك؟ ليش الكوابيس أطول من الأحلام؟ كأن الناس بتتقاسم الحياة وما بيتركولي منها إلا الفضلات». شخصيتان متناقضتان في المواقف إلى حدّ التوازي لا الاصطدام، فالتناقض ليس عمودياً قاسياً، إنما متكامل على قاعدة «الضدّ يظهر حسنه الضّد»، بما يمنح الجمهور فرصةَ توكيدِ رغبته في تفضيل إحدى وجهتَي النظر على الأخرى. خدمَ مخزوم مادته اللغوية، فغلبتْ بلاغةُ الصورة التعبيرية في المقاطع الشعرية منها. كما كان وقْعُ الجملة الحوارية مؤثراً جداً حتى كاد ينسينا اللعب على الكلام في مفرداتها، كأنْ يدور الحوار التالي بين الشخصيتين: • شخصية (+) : مستقبل؟
• شخصية (ــ) : ما بوثق بالمستقبل. جربتو مرة بالماضي وما بقا عيدا.
• شخصية (+) : شو أكتر عيد بزعلّك؟
• شخصية (ــ): عيد الأم .
• شخصية (+) : شو أكتر كلمة بتحسسك بالندم؟
• شخصية (ــ) : ندم !
يتدخل على الخشبة عاملُ المصعد بين حينٍ وآخر لغايةٍ تقنية توضِحُ أسباب تعطّل المصعد ومراحل إصلاحه. نعلمُ من خلاله بأنَّ مهندس «الأسانسير» ترك للأخير هامشاً وجدانياً للشعور ولإثبات شخصيته في تعامله مع البشر. وهذا ما جعله يرفض الانصياع، عنيداً وثابتاً على موقفه تحت سلطة إحساسه «بكيانيةٍ ناقصة» على الرغم من مفاوضات مهندسه معه والعمل مجدداً لإخراج الفتاتين من سجنهما المظلم الصغير. وهو ما يعيد العامل تأكيده في نهاية المسرحية، إذ سيتمّ تشغيل «الأسانسير» يدوياً في ظلّ لامبالاة الفتاتين.
يرتكز النص إلى شخصيّتين: إيجابية وسلبية عالقتين في مصعد

كأنَّ الأوان قد فات ولا حاجة إلى تحريرهما ممّا وقعتا فيه. اللامبالاة فتحتْ للمُشاهد الباب على تعددية التفاسير، وتوّجت المسرحية بموقفٍ عبثيّ اتّحدتْ فيه الشخصيتان السلبية والإيجابية على ثيمةٍ واحدة سلبية من الحياة في مونولوج شعري بدأتهُ الأولى في أفكار التعب والأمراض النفسية والإنهاك الجسدي والروحي في الحياة. «مللتُ ضوءَ النِّيون، ضوءٌ كرِب يزيد مِنْ بهتان الذات». وختمتهُ الشخصية الإيجابية المسرحية: «هشاشةُ الإنسان ليس لها تاريخ صلاحية. ظمأٌ ظمأٌ في حلقي وروحي. يجثو جهازُ مناعتي على ركبتيه. ويخورُ الجسد من ثِقل الخلايا المُكتئِبة. تباغتني آهٌ عميقة كالتي أطلقتها أوفيليا شكسبير في رحلتها إلى الظلام»
لامستْ «المعلّقتان» بعض أنساق منهجية مسرح ما بعد الحداثة، وتحديداً الحيّز المتعلّق بتحرير التعبير الجسدي للممثلين من الأسلوب الفنّي المحدد في الحركة والرقص، إلى البوح عن أفكار ورؤى خاصّة يريدها المؤلّف وتتعامد إيجاباً مع رؤية عسيران الإخراجية بعيداً من زعزعة المبادئ والقفز على المُسلّمات الفطرية التي تحكم علاقة الإنسان بواقعه المأزوم. وعلى الرغم من لمسة العبث التي اتّسم بها النص في قالب مسرحي فذّ، إلا أنّه يذهب إلى الصدمة التي تَركَبُ جانبَ الشَّك والمفارقات لتوقظ الوعي المعرفي بضرورة التحول عن الأسوأ إلى الأفضل عند الجمهور. وفي غياب الديكور، قدّمت لينا عسيران خلفية بريشتية خصيبة لدفع الجمهور إلى التأثر والتفكير بمصيره وآماله وآلامه قبل الخروج من المسرح، على الرغم من ترتيبها مساحتَين غنائيتين صغيرتين بصوت سارا عبدو إمتاعاً للجمهور وتطلعاً إلى نجاح اللحظة المسرحية، كيلا يصاب المُشاهِد بالضجر. وفي تتبع الخط البياني للعمل، تمَّ الاتّكاءُ على المجاز التقني الذي تستفيد منه العروض اليوم بعيداً من المبالغة في المؤثرات الصوتية أو البصرية وبالتكافلِ مع قوّة الأداء في تعابير الوجه والجسد وممكنات الإلقاء الذي اختلط فيه التنغيم في إبراز قيمة الصوت déclamation مع الإلقاء الطبيعي/ العادي وفاقَ مقتضى الحال على الخشبة. أمر أكّدَ موهبة الحضور الذهني للمُمثّلتَين زخور وعبدو الذي ارتكز إلى وثوقية التواصل بين النص والعرض، وفي الانتقال السهل بأريحيّة عالية بلغت حدّ الاحتراف، بين مقاطع الحوار نثراً وشِعراً في ساعة واحدة، على الرغم من كثافة الأفكار وتلاحقها بوتيرة سريعة.