يسعى الفلاسفة منذ القدم، للوصول إلى معرفة الأمور الأزلية وحقائق الأشياء، ولكن يجب أن لا ننسى أنَّ الفيلسوف هو كائن من لحم ودم، وأن جسده يحتوي على جهاز هضمي تمر عبره الأطعمة التي تتعرض إلى عمليات كيميائية وتتحول إلى مغذِّيات تسري في دمه وتصل إلى ذهنه منبع الأفكار والنظريات الفلسفية. في كتابه «بطن الفلاسفة» (1989) الذي يغلب عليه الطابع المرح، يُطلعنا الكاتب والفيلسوف الفرنسي ميشال أونفري على الأطعمة المفضّلة لدى أشهر الفلاسفة، محاولاً أن يُفسِّر لنا علاقة نظامهم الغذائي بفلسفتهم في الحياة وبأسلوب تفكيرهم.
لنبدأ مع الفيلسوف اليوناني ديوجين (404 - 322 ق. م) أحد مؤسسي المدرسة الكلبية التي تحتقر الثروة، وتعتبر أن السعادة تتلخص بالاكتفاء بالأساسيات. قابل ديوجين فكرة الحضارة بالتشاؤم، معتبراً أنها مرادف للغش والفساد بقضائها على براءة الإنسان الأولى. لذلك كان يرفض كل ما هو زائف، ولا يكفّ عن الدعوة إلى البدائية. أفكار تجلّت بوضوح في نظامه الغذائي. إذ لجأ ديوجين إلى شرب المياه من الينابيع والتقاط ثمار الأشجار كالبلوط والزيتون والفواكه محاكياً الإنسان القديم، فيما كان يرفض طهي الطعام بسبب احتقاره للنار التي سرقها بروميثيوس من آلهة جبل الأولمب ومَنَحها للبشر لإقامة حضارتهم الفاسدة. لهذا كان يأكل الطعام النيء. وقد نقل عنه، بأنه تناول ذات يوم لحوماً بشرية وأخطبوطاً حياً. حتى إن ديوجين كان لا يتورّع عن قضاء حاجاته الغريزية في الأماكن العامة. وبهذا الفعل الفجّ، عبَّر عن رفضه للحضارة الإنسانية وأسَّسَ لكينونته الحيوانية التي تنسجم مع الطبيعة، وصولاً إلى لحظة موته. إذ أوصى بعدم دفن جثته، مقابل أن تترك في العراء لتلتهمها الحيوانات المفترسة. وعندما نستحضر صورة أنتيغون البطلة الإغريقية التي ثارت على عمّها الملك وتصدَّت له لأنه رفض أن يدفن جثة أخيها، نُدرك فداحة التجاوزات التي ارتكبها ديوجين.

«من دون عنوان» للفنانة اللبنانية آني كوركدجيان (2012)

من ناحيته، اشتهر الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو بالزهد والعفوية. تقوم فلسفته على أن الإنسان مفطور على الطيبة، وأن المجتمع مسؤول عن إفساده. لذلك دعا للعودة إلى الطبيعة والحياة القروية حيث تكمن الفضيلة. رأى روسو أنَّ رفاهية البورجوازيين هي السبب الرئيس لفقر الفلاحين وسكان الريف. فتوفير العصير والخمور والكماليات للأثرياء، يقوم على حرمان الفلاحين من الخبز والمرضى من الغذاء. ترتبط فنون طهي الأطعمة بالنسبة لصاحب «الاعترافات» بانحطاط الأمّة وفسادها. لذا شجع الناس على تناول المأكولات التي لا تتطلب سوى تحضير بسيط، وشدَّد على أنَّ الطعام هو فقط وسيلة للبقاء على قيد الحياة وليس أداة للمتعة واللذة، محذّراً دائماً من خطيئة الشراهة. وعلى النقيض من فولتير الذي كان يقيم الولائم لأصدقائه ويدعوهم لتذوق الديك الرومي مع الحجل وسمك السالمون المرقط والنبيذ الفاخر، كان روسو يمتدح فضائل الألبان والأجبان والخضروات والفواكه. أما بالنسبة لتنظيم وجبات الطعام، فقد تجنّب مواطن جنيف الأماكن المغلقة والموائد المزينة المبهرجة وآثَرَ تناول وجباته في الريف على العشب الأخضر قرب الينابيع. مردّ ذلك إلى إيمانه بأن الإنسان هو ما يأكله، فالشعوب التي تقتات على اللحوم تميل إلى العنف والهمجية، بينما الناس الذين يتناولون الخضار يميلون إلى السلام والدعة، وكان ينصح النساء تحديداً بتجنب اللحوم والتركيز على الحليب والنباتات، خصوصاً إن كنَّ مُرضعات.
نأتي إلى فيلسوف عصر التنوير إيمانويل كانط، مؤسس الفلسفة المثالية الألمانية التي تؤمن بأهمية الأخلاق والأفكار والمثل العليا. رفض كانط بشكل حازم تناول البيرة واشمأزَّ من حالة السُكر التي تسببها الكحول لأنها تمنح الإنسان لحظات وهمية من السعادة، والهروب من الواقع، ولكنها تؤدي في ما بعد إلى البلادة والإحباط. مؤلف «ميتافيزيقيا الأخلاق» كان يمقت بشدة اليخنات، ويفضل تناول اللحم الطري ويكره القيام عن المائدة إلا بعد قضائه ساعات لتناول وجبته الرئيسية والوحيدة بصحبة أصدقائه. قدَّم كانط على مائدته أطباق الجبن والزبدة واللحوم المشوية ومرق لحم العجل وتجنب لحم الطرائد. وكانت لديه طريقة غريبة لتناول اللحم، إذ كان يقوم بمضغه مطوّلاً، ويبتلع عصارته فقط ثم يرمي البقايا ويخفيها تحت قشور الخبز في زاوية صحنه. ومن وجباته المفضّلة أيضاً، سمك القد تحديداً، كما كان يعشق إضافة الخردل إلى الطعام ويُفضِّل احتساء النبيذ الأحمر الخفيف جداً. طوال حياته، اكتفى كانط بتناول وجبة واحدة في اليوم، ودعا الإنسان إلى مقاومة شهواته والتحلي بالعزيمة لكبح جماح نفسه لكي يصل إلى الحكمة.
أما الفيلسوف الفرنسي الطوباوي شارل فورييه الذي سبق كارل ماركس بأفكاره الاشتراكية، فقد سعى إلى خلق مجتمع منتج متعاون ونظام اقتصادي عادل، مع منح كل فرد الحق في اختيار العمل الذي يناسبه. في هذا المجتمع الجديد المزمع إنشاؤه، يجب أن يتغذى المواطنون جيداً وأن ينعموا بوفرة الطعام والشراب كي يعيشوا سعداء وأغنياء. ولكي نحصل على الانسجام المطلوب، فضّل فورييه اختيار الأطعمة الغنيّة بالسكريات كالمربيات الخفيفة، والكريمات الطازجة والليموناضة. وكان يعتقد أن السكر هو حجر الأساس في غذاء هذا المجتمع الفاضل البهيج الذي يسعى إليه. من ناحية أخرى، فإن صاحب نظرية موت الإله فريديريك نيتشه انتقد المطبخ الألماني بقسوة واعتبر أنَّ الأطعمة الألمانية تتميّز بقلّة الجودة والدسامة. برأيه فإن تناول الحساء والبطاطا واللحمة المسلوقة مع الخضار والإضافات الدهنية والطحين يتحول إلى أحمال ثقيلة على الجهاز الهضمي. دعا نيتشه أيضاً إلى حذف الخبز من قائمة الطعام لأنه يُحيِّد نكهة بقية الأغذية، ورفض القوت النباتي لأنه يُضعف الجسد؛ فالإنسان الخارق المتفوق الذي سعى إلى تشكيله يحتاج إلى اللحم لكي يبني جسده وقوته. عِلم التغذية عند مؤلف «جينالوجيا الأخلاق» يقوم على اختيار الكمية المناسبة والنوعية الجيدة فحسب. لذا كان يرفض الإكثار من الخبز والنشويات وينتقد حرمان الجسد من اللحوم ويدعو إلى تجنب الكحول لأن استهلاكه بإفراط يسبّب الانحطاط الروحي. دعا نيتشه أيضاً إلى استبدال القهوة بالشاي، وشجع على تناول الشوكولا ومدح فضائل الكاكاو. الفيلسوف الذي آمَنَ بمبدأ القوة ونبَذَ ثقافة المستضعفين، كان شغوفاً باللحوم، تحديداً النقانق والجمبون المدخن مع البيض. لكن العائق الرئيسي أمامه كان ارتفاع أسعار هذه الأطعمة، فلم يتمكن دائماً من الحصول على الوجبات التي يشتهيها. وفي السنوات الأخيرة من حياته، كان يبتاع كميات كبيرة من اللحوم ويعلّقها على الحائط. يمكننا أن نتخيّل هنا كم سيكون المشهد ساحراً: نيتشه منكباً على تأليف كتاب «نقيض المسيح» مثلاً تحت مسبحة من النقانق والسجق!
رأى مارينيتي أنّه يجب على الإيطاليين الامتناع عن المعكرونة لأنها تسبّب الثقل للجسد


بالنسبة إلى الفيلسوف الإيطالي فيليبو مارينيتي، صاحب النظرة المستقبلية الذي كان يطمح إلى جعل إيطاليا إمبراطورية قوية مهيمنة على منطقة البحر الأبيض المتوسط، فقد شكّل الطعام بالنسبة إليه وسيلة للثورة على الواقع. يعادل تنظيم المآكل لديه فكرة تنظيم البروليتاريا لدى ماركس وتحويلها إلى طبقة ثورية. لقد انشغل مارينيتي بالسؤال عما يجب أن تأكله الأمة الإيطالية الحديثة، ووجد أنه على الإيطاليين الامتناع عن تناول المعكرونة لأنها تسبب الثقل والإعياء للجسد، واعتقد بأنه إذا تخلت إيطاليا عن السباغيتي واستبدلته بالأرز الوطني فسوف تصبح أكثر قوة من الناحية الاقتصادية وتنتفي حاجتها إلى استيراد القمح. مقابل ذلك، حثّ الإيطاليين على تناول الخرشوف والإوزّ السمين أو الخروف المشوي. كما سعى في أنظمته الغذائية إلى إرضاء الحواس الخمسة عبر إدخال العطور والموسيقى إلى وجباته.
نصل أخيراً إلى فيلسوف الوجوديّة جان بول سارتر الذي كان يتجاهل الاهتمام بنظافته الشخصية ولا يبالي بالطعام، فكان أكله يقتصر على التهام أي شيء وفي أوقات غير منتظمة، علماً أنه كان يُفضل بشكل خاص أطباق اللحوم الباردة. لكن هذا كان يقابله التدخين بشراهة وابتلاع كمية كبيرة من الأدوية والمنشطات النفسية. ما ميَّزَ سارتر هو كرهه لثمار البحر بسبب لزاجتها وطراوتها التي تثير لديه إحساساً بالتقزز. وفيما غابت هذه الكائنات البحريّة عن مائدته، إلا أنها لم تغب عن رأسه. إذ كان يتوهم أنَّ جحافل من سرطانات البحر تطارده من مكان إلى آخر، خصوصاً لدى تناوله الميسكالين، وهو من الأدوية العصبية المسببة للهلوسة.
بالعودة إلى لبنان، وبعدما تسبّبت الأزمة الاقتصادية الخانقة في انهيار العملة الوطنية، أصبح اللبنانيون عاجزين عن تأمين حاجاتهم الغذائية الأساسية، وما عادت اللحوم سبيلهم للتحول إلى أشخاص خارقين على خطى نيتشه، ولا عاد باستطاعتهم تناول الجبن والحليب للتفكير بعقد اجتماعي جديد على خطى روسو، فهل سيسير اللبنانيون على منوال ديوجين ويبدأون بقطف ثمار الأشجار واصطياد الحيوانات البريّة؟