يقول الفنان الفرنسي كلود مونيه «أريد أن أرسم بالطريقة نفسها التي يغني بها الطير»، هكذا يأتي العمل الفني أحياناً كمحاولة لمعانقة اللغة والموسيقى وفضاءات أخرى. في محاولة لعناق الكلمة واللوحة معاً، أصدر الفنان السوري بطرس المعري كتابه الثاني «رؤيا الدمشقي» (دار أطلس) بعد «كيوبيد الدمشقي». في عمله الجديد، نحن أمام قصص وقصائد برفقة لوحات من الرصاص والحبر، عن دمشق وحلب وباب توما وجرمانا وشارع الحمرا في بيروت وأماكن أخرى. الكلمات هنا تصبح دليلنا السري إلى عالم بطرس المعري البصري الذي يكثّف الحكايات، فتصلنا ببساطة آسرة. هكذا هي لوحاته التي تحضن مكانه الأول بحب، لتنقل فنونها الشعبية وخيالاتها المختبئة.
(من الكتاب)

لم تغادر دمشق مخيلة الفنان الذي تخرّج من كلية الفنون فيها عام 1991 قبل أن يكمل دراسته في فرنسا، ولم يعد إلى سوريا إلا عام 2008، بعدما نال شهادة الدكتوراه ليدرّس في كلية الفنون لمدة أربع سنوات، ثم يهاجر مجدّداً إلى هامبورغ الألمانية ويستقر فيها. دراسته للحفر كانت ملهمة له، حيث أسكنت في لوحاته الرماديات والأبيض والأسود. درس المعرّي فن الكتاب المصوّر، واطّلع على الكثير من الكتب التراثية العربية كـ«ألف ليلة وليلة»، وسحرته عوالم الفنان السوري الراحل برهان كركوتلي الذي التقاه أكثر من مرة في ألمانيا، لكن تقنياته اختلفت عنه، ومع الزمن بلور أسلوباً فنياً خاصاً آتياً من بحثه الشخصي والأكاديمي، ومنطلقاً من السؤال الذي طرحه في رسالة الدكتوراه: هل صحيح أن الفن الشعبي هو أساس اللوحة السورية؟
هكذا حضرت السذاجة كأنها تمزج الفنون الشعبية بالحياة اليومية، فتلبس الرؤوس الشرقية في لوحاته الطربوش. أما في «كيوبيد الدمشقي» الذي يضمّ مجموعة نصوص ورسومات تتسم بالبساطة، فيمزج الفنان الأسطورة الرومانية مقدّماً نسخة دمشقية من «كيوبيد» مجنّحة تطوف فوق بيوت الشام.
نرى أن «الألوان تدخل لوحته بخفر» كما عبّر مرة في حوار معه، فقد تأثّر كثيراً بأعمال الفنانين الشعبيين وبطريقة عملهم، وخصوصاً كركوتلي، وقد عمل هؤلاء على الرسم بالخط وإغناء اللوحة بالكتابات والزخارف. ومع أنه احتفظ بتلك البيئة الشامية، إلا أنه عمل على أن يكون هذا الموضوع أعمق مما يبدو، فالحكاية لا تقتصر على طربوش ومقهى وطاولة، حيث الشخوص فقدوا بوصلتهم وشعروا بالغربة. هكذا لم تعدّ لوحته مجرّد استدعاء للحنين والخطابة بقدر ما صارت فضاء للتنفس والتعبير. لا يهمل الفنان البساطة والأصالة التي يؤمن بها، إذ لا يمكنه كفنان سوري دمشقي أن يرسم كجان ميشال باسكيا الذي ولد في نيويورك، رغم أنه يدرك أن باريس حرّرته من الوصايا العشر لأساتذة الفن في المشرق، فقد أضافت الكثير إلى تجربته وإلى براءته التشكيلية التي تكوّنت في دمشق.
الحكاية ليست طربوشاً ومقهى وطاولة، فهؤلاء الشخوص فقدوا بوصلتهم وشعروا بالغربة


في كتابه «رؤيا الدمشقي»، يستحضر الفنان الذاكرة التي لم تغادر الشام، لكنه لا يسرد قصصها فقط، بل يحاول أن يمسك بتفاصيل كان قد عكسها في فنه، كالخوف، الأحلام وأحياناً الصمت. لكنها أيضاً رؤيا مختلفة للسرد من وجهة نظر الفنان الذي يؤكّد في القصة قيمة الفن عبر رمز الطبشور الذي رآه الدمشقي في منامه، كأن الدنيا قد أمطرت قطعاً من الطبشور على أهل المدينة. الفن هنا مرافق لحكايات المدينة التي تخرج من لوحات بطرس المعري وتستقرّ في الكتاب.
يزخر الكتاب أيضاً بالشخصيات، ربما تلك التي ملأت لوحاته، ليستحضرها الآن في اللغة، كساعي البريد والرسام والعاشقة والمريض النفسي وسعيد الرملي. وكما يمتلئ الكتاب بالأمكنة، فاللغة أيضاً تحضر بالفصحى والعامية. لا ينسى الفنان زاوية أو تفصيلاً من مدينته. تأتي الرسومات المصاحبة حالمة وبسيطة ولا تملأ المشهد، بل تحلّق به إلى فضاء آخر. هناك ظلال لأشخاص، أو طير أو مفتاح، وأحياناً طائرة ورقية تطير فوق المكان برفقة قصيدة إلى صديقة: «لقد قدّر علينا هذا/ أن نبتعد عمّن نحب/ وعمن يحبنا».
ربما هو فضاء الرؤيا نفسها التي تملأ عالم هذا الدمشقي، فها هو يبحث عن لغته الفنية التي يريد أن ينقلها إلى العالم فيكتب في أحد نصوص الكتاب على لسان النازح: «اتركوا لنا ممراً آمناً لطاقة زهور/ نضعها على قبر أبي». رسوماته هي ذلك الممر الآمن والساحر لينثر وروداً على حكايات الخوف والألم التي يمتلئ بها الكتاب.
فهل كان بطرس المعري ساعي بريد لتلك الشخصيات التي تحكي ألمها كما في قصته القصيرة «ساعي بريد»، وخصوصاً أنه يختمها بجملة «كانوا هم يقولون كل شيء عنه، وهو يكتفي بدور ساعي بريد»؟
ربما هو أكثر من ذلك، لأنه فاق دور الحكواتي، وها هو يعيدنا إلى لوحاته التي تحتضن جملاً وقصصاً، فنتأمل وجود اللغة بين الألوان، وكيف تصبح هي بذاتها عملاً فنياً، تذكّرنا بأن الفن لا يمكن أن ينفصل عن اللغة حتى لو كان تجريدياً.
وفي كتابه الجديد هذا، تحضن اللغة الرسومات كأنه يسائل الفن عن معنى وجوده داخل القصص. نشعر بأنه كتاب قصصي فني حيث الرسومات لها مكانها وفراغها الذي تتنفّسه بعيداً عن القصص، فهو ليس صورة ترافق العمل، بل تضيف إليه نصاً آخر. في «رؤيا الدمشقي»، يعثر بطرس المعري على تلك الخلفية التي غذّت لوحاته، ويتركنا نتوه في الممرات التي جاءت منها.