«بدّي شوفك ضروري قبل العملية، شو عندك بكرا؟». وفي اليوم التالي، كنت في حضرة الشيخ في منزله في النبطيّة، مستغلاً خروجه المؤقَّت من المستشفى، ولكن العمليَّة الجراحيَّة المنتظرة لن تُجرى قبل اللقاء ولا بعده، إذ سبقها المرض الذي تفشّى سريعاً في جسده فمنع إجراءها. أمّا زياراتنا له في المستشفى لاحقاً، فلن تتكلّل برؤيته بسبب تدهور حالته الصحيّة وتحالف الألم والمسكّنات ضدّه. كان هذا اللقاء الأخير. تحدَّث الشيخ في اللقاء الأخير عن موته وحياته بنبرة هادئة محايدة كما لو كانا يخصَّان أحداً غيره، أو كما لو كانا احتمالين لقضاء يوم عطلة أو لإحياء نشاط ثقافي. كان مصداقاً لفكرة لم أستطع استيعابها قبله بمثل هذا الوضوح: أن يستطيع المرء الاستعداد في اللحظة ذاتها للموت غداً وللعيش أبداً!
من التشييع (هشام حطيط)

في تفصيل الاحتمال الأوَّل، تحدَّث الشيخ عن أربعة مشاريع متنوعة، يحتاج بعضها إلى السفر خارج لبنان.
- «بدي ياك معي» قال، ووعدته بتجديد جواز سفري، ولكنَّه سافر وحيداً وإلى وجهة أخرى. كان شخصه حاضراً في كل هذه المشاريع. أمَّا السيناريو الثاني، فكان استعراضاً للمرحلة المقبلة ذاتها مع فارق وحيد هو استبعاده لنفسه من المشهد، ليأخذ الحديث طابع الوصايا.
وكان الشيخ رافضاً بشدّة فكرة التريّث في أي من هذه المشاريع في انتظار تحسّن صحته. «هل سيتوقف كل شيء إذا لم تتحسَّن؟ لقد رفضتُ دوماً مسألة ربط المؤسسات بأفراد ولن أقبلها الآن. البركة بالشباب».
وكانت «جائزة سليماني للأدب المقاوم» أكثر ما شغل تفكيره، فهي تحمل اسماً عظيماً ينبغي أن تخرج لائقة به، رغم كل العوائق: من حداثة التجربة، إلى خصوصية الاسم نفسه وما يشكّله من استفزاز لخوارزميات الفايسبوك فيعيق الترويج الافتراضي المطلوب، ومن إحجام بعض أصحاب المواهب ممن يحلمون بفرصة ما في إحدى دول التطبيع، عن المشاركة. مع ذلك، فقد نجحت الجائزة في استقطاب مئات المشاركات من 14 دولة عربيَّة وأجنبيَّة في دورتها الأولى. كان حريصاً على عدم التدخل في عمل لجان التحكيم بأي شكل من الأشكال وصولاً إلى نتائج منصفة للجميع ولائقة بسمعة الجائزة، وأبقى أسماء المشاركين محجوبة حتى اللحظة الأخيرة عن نفسه وعنا وعن أعضاء لجان التحكيم الذين تمَّ اختيارهم بعناية شديدة من بين كبار النقاد في الوطن العربي. وقد أشاد هؤلاء لاحقاً بالاستقلاليَّة الكاملة التي أحاطت بعملهم وغير المتوفرة في مسابقات كثيرة مشابهة.
المقاطع الصوتية التي كانت تصلنا منه يومياً بصوته المتعب، كلما سمحت له آلامه باستراحة قصيرة، كانت تحمل لنا معنى التفاني والإخلاص للأدب المقاوم حتى الرمق الأخير، من شخص أدرك أنَّه بات قريباً من عبور جسر بين عالمَين، فلم يثنه هول الموقف عن متابعة مهمَّته النبيلة في العالم الأوَّل على أكمل وجه ليلقى ربَّه راضياً مرضياً، وكانت تحمل معنى تعويله الكبير على المسابقة كفرصة لرفد الأدب المقاوم بباقة من الاسماء الجديدة يفترض أن تكون لها بصمة واضحة في المستقبل القريب.
شكر الله سعيك يا شيخ، ولترقد نفسك المطمئنة بسلام. ستبقى الشجرة التي زرعَتها يدُك المباركة خضراء دوماً.