وهنا لن نجد فارقاً كبيراً، بين ما يقوله المحلّل وما يتداوله العامة في ثرثرات المقاهي، تبعاً للخندق السياسي الذي ينتسب إليه. هو يرغب في إرضاء الجهة التي يمثّلها، وليس ما ينتظره منه المشاهد. وقد يعلو السقف لدى بعضهم في الاتهامات والزعيق والحماسة لتحقيق مجدٍ فرديٍ عابر، في اجتراح بطولة وجرأة ونزاهة لدى من يظن أنهم مناصروه في وجهة نظره، تحت بند «شوفوني ما أحلاني»، وليس بسبب القناعة بما يقول. المحلل السياسي العابر للشاشات «قوّال»، وليس صاحب منهج رصين، وتالياً، فهو أشبه بشعراء الربابة الجوّالين في الأعراس الريفية، ينتظر «الشوباش»، أكثر من قناعته بسلالة العريس العتيدة. ثم لا نعلم كيف تفتحت كل هذه المواهب فجأة، وكيف حصلت على ألقابها، من طراز «محلل استراتيجي»، و«مفكر سياسي»، و«محلّل عسكري»، من دون حيثيات سابقة تدل على اختصاصه الطارئ، ربما عدا صفة «محلّل» تلك التي نراها في أفلام الأبيض والأسود، بخصوص نقض الطلاق.
ستنتهي الحروب آجلاً أم عاجلاً، ووقتها سنجد أنفسنا أمام مشكلة بطالة حقيقية لجيش جرّار من «المحلّلين»، و«المغيثين»، و«المدربين على الديمقراطية»، و«المشرفين على المنظمات الإنسانية»، و«الصحافيين» في نشرات لم يكن يقرؤها أحد. نظنّ وبعض الظن إثم، أنّ مئات العاملين في هذه المهن، لا يتمنون أن تتوقف الحروب المشتعلة في بلدان الربيع العربي، خوفاً من البطالة، وتوقّف الإعاشة الطارئة، والشهرة الزائفة، فما الذي يأتي بكاتب مغمور وجد نفسه نجماً في حقل السياسة، بما لم يحققه في الشعر أو الرواية أو القصة، في ما بعد الحرب؟ وكيف لكومبارس في التمثيل «سابقاً» أن يقتنع غداً، بأنه لم يعد بطلاً، وكيف لبطل «بريد القراء» في الصحف، أن يقتنع بأنه لم يعد عضواً في هيئة استشارية لهذه النشرة الإعلامية أو تلك؟ هذا إذا تجاهلنا سينمائي الغفلة الذي صوّر مشاهد من تظاهرة أو نزوحاً، أو انفجاراً، بالمصادفة. لا تتوقف «إعادة الإعمار» على هندسة المدن فحسب، بل على هندسة العقول الواهمة بأنها دخلت التاريخ من أوسع أبوابه، ولكن من خارج الحدود، وفي الوقت الضائع.
«قوّال» أشبه بشعراء الربابة الجوّالين في الأعراس الريفية