غيّب الموت أمس الشيخ والشاعر والأديب فضل مخدّر (1965ـــــ 2021) الذي كانت له بصمات واضحة على الأدب الملتزم والمقاوم، وواءم في شخصيّته المحاورة والمنفتحة الشعر والرواية والرسم مع العمامة البيضاء والعلم الديني، مذكّراً بكوكبة من علماء جبل عامل ممّن اشتهروا بقرض الشعر وحسن البيان حتى قال فيهم الأمير شكيب إرسلان مقولته الشهيرة: «لم أجد أصدق من قريض أبناء جبل عامل صورة للشعر العربي الصميم، ولا أخلص منه عرقاً في نسب اللغة، التي امتازت بها سعد وثقيف، وسفلى هوازن وعليا تميم، ولقد أراني أشرب ولا أرتوي، حتى إذا وقعت في يدي بعض قصائد من نظم العامليّين شبعت كبدي رياً، وامتلأ دماغي بياناً عبقرياً، نعم هو الشعر الذي ينبغي أن يبقى في العرب مرفوعاً شعاره، مضيئاً مناره، زاهراً نواره، مهتزة أوتاره، حتى لا تتنكر اللغة على أهلها ولا يختلط هجينها بفنيقها ونكسها بفحلها».

منذ نعومة أظافره، كان مخدّر ينتزع حصة من «المصروف» الذي يجود به الأهل لشراء قصة أو رواية يتبادلها مع الأصدقاء، وهو ما صقل أدبياً شخصية الشاب الساعي وراء العلم الديني بين الكويت وقمّ وجبل عامل، ليحصل على شهادة الليسانس في الإلهيات عن اختصاص الفلسفة والحكمة الإسلامية، من جامعة آزاد الإسلامية (فرع لبنان) عام 2007 وشهادة الماجستير في الاختصاص نفسه من الجامعة ذاتها عام 2011. مسيرة اكتشف صاحبها في مناكب البحث ما يكتشفه كل عقل متنوّر: «ما توصّلت إليه في نهاية المطاف أن وجود الإنسان الإنسان هو المعطى الوحيد الذي يكمن وراء الفن والجمال»، فكان أن خاض الشيخ المتنوّر في ميادين الأدب مؤسّساً «ديوان الكتاب للثقافة والنشر»، ومنسّقاً «مؤتمر الناشر العربي» لأعوام 2005 – 2007 – 2008 ومنظّماً لـ «مهرجان لبنان للشعر العربي» منذ عام 2008. كما نشِط في «إتحاد الكتاب اللبنانيين» كعضو إداري ونائباً لأمينه العام (2012). وقد رعى «ديوان الكتاب» الذي أداره مخدّر، العديد من المواهب الشابة في القصة القصيرة والرواية والشعر. وكان لصاحبه إسهامات في العديد من المجموعات الشعرية والروايات والدراسات الشعرية والفكرية من «اسكندرونة» (2012) و«نصوص مسكونة» (2015) و«الحاكم عند الفارابي» (2016) و«يا صاحبي» (2017) وغيرها. كتابة مسكونة بالجمالية كأن هذا المعمَّم مسكون بربّات الإلهام التي كانت توحي للشعراء والمبدعين، وهو ما كتبه الشاعر التونسي منصف الوهايبي في تقديم كتابه «نصوص مسكونة»: «هذه العربيّة المتخيّرة ذات الإيقاع الأصيل أشبه بعمل الشعر حيث تحلّ البنية الصرفيّة محلّ البنية العروضية؛ وتسخو اللغة بموفور قوّتها. فإذا بإيقاع النصّ عنده ـــ وهو قصيدة نثر من نوع خاصّ ـــــ تراسل لغويّ «للتناغم الكونيّ الفيثاغوريّ» أو هو «تعبيريّة» تحاكي حرفيّاً ما يقوله النص أو هو انتظام نغميّ أو لحنيّ؛ يُعيد الشعر إلى منبعه، ويستشفّ مِن وراء الظواهر والمظاهر علّة العلل وقدس الأقداس، وينزع إلى صميم الأشياء ودخائلها، عسى أن يحوز معنى الإيقاع الكامن فيها، أو أن يلمح «الكلّيّ» خلال «الجزئيّ». الإيقاع الذي يجري في هذه النصوص «المسكونة» أو هي تجري به، صدى الإيقاع الذي يفيض به الكون أو هو يستفيض فيه. لأقل: هذه النصوص هي تحويل شكل لغويّ إلى شكل من أشكال حياة اللغة، وتحويل شكلٍ من أشكال الحياة إلى شكل لغويّ. نعم هي نبْتُ الأسطورة أسطورة «جنّيّ الشعر» وثمرة اللغة معاً». رحل الشيخ فضل مخدّر تاركاً آخر أبياته من الشعر الرقيق: «بانت بلى ونمَت في مقلة الأزلِ/ تبسّم الأبد النشوانُ في الغزَلِ»، وروحانية محبّبة تحتاج إليها الفنون على رأي ماتيس، وكلمة ملتزمة مقاومة تكون أحياناً أمضى من الرصاصة.