لستُ من هواة الرثاء لأرثو سماح إدريس، ولا من علماء اجتماع الرثاء العرب لأنتقد من يرثونه، ولكنني، هنا، أرثو المترجِم بالترجمة، والقاصَّ بالقصِّ، والناشر بالنشر. فالموت واحد من مجازات الحياة الكبرى، ونحن، الأحياء، حين نجبن عن مواجهة الموت، أو نتقاعس عن الانضمام إلى من واجهوه بأجسادهم العارية أو تكاد، نقترف الرثاء بوصفه مواجهةً بلاغيةً أدركها الفوات، إذ «لا خيلَ في الساحِ نُهديها ولا مال».أعلم أن سماح إدريس لم يعد هنا، وليست تلك «مزحة»، كما وصفها أحد الرفاق من محبِّيه، بل هي حقيقة تنفذ من بؤبؤ العين، سواء سلَّمت بموته فبكت، أو أنكرته فجمدت. وعلى ذلك، فليس لنا إلا الاحتفاء بقصة الحقيقة بعد غيابها العياني. وقصة سماح إدريس، ينبغي أن تُقال، وهذا كل ما يمكننا فعله الآن، في فلسطين وفي لبنان، وما وراء السياج. وقصَّة سماح إدريس، هي أكثر من «الآداب» بلا شك، ولكنَّها كذلك، «الآداب» التي ينبغي أن تستمر في المقاومة بعد غياب سادنها، ذلك أنّ «الآداب» لسماح سهيل إدريس، هي «البوابة» لإنكيدو: حلم حياته، وكابوس موته. فلنحاول معاً ألّا تموت البوابة، وإن مات حالمها، وحاملها، وحارسها... فحلمها بالتحرير لم يمت.
(خولي طفيلي ـــ لبنان)

لو كان سماح إدريس حاضراً جسداً، لطلب «تبسيط الفكرة» للقرَّاء، والتأكُّد من راحة جسد الهمزات وشفاء العلل. لكنه لم يعد هنا، ولربما لم يعد هناك. ولذا، يتحلّل المرء، رغم مرارة الفقد، من بعض رقابته النبيلة في تقديم الحقيقة وقصَّتها للقرَّاء كما هي، أو كما ينبغي لها أن تكون بين الأدب والفلسفة.
لراحة روحك، يا رفيق، وشفاء جسدك، ترجمتُ هذا النص الخلَّاب لجان لوك نانسي، أجمل فلاسفة العالم-الشعراء، الذي سبقك إلى سياج الله قبل ثلاثة أشهر، عن غياب الآلهة «بين عالمين: الحقيقة وقصَّتها»
■ ■ ■

ذات يوم، انسحبت الآلهة. انسحبت، بطريقتها الخاصة، من ألوهيَّتها، أي من حضورها. وما تبقَّى من حضورها هو ما يتبقَّى من كل حضور حين يُغيِّب نفسَه. وما يتبقَّى هو ما يمكن للمرء قوله عن الحضور الغائب. وما يمكن قوله عن الحضور الغائب هو كل ما يتبقَّى حين لا يمكن مخاطبته: لا بالتحدُّث إليه، ولا بلمسه، ولا برؤيته، ولا بمنحه هدية.
وربما يمكن القول إن الآلهة انسحبت لأنه لم يعد بالإمكان تقديم هدية لحضورها: لا قربان، ولا أضحية، اللهم من قبيل العادة أو التقليد. فقد أصبحت لدينا أشياء أخرى نقوم بها: الكتابة، على سبيل المثال، والحساب، والتجارة، والتشريع. ونتيجة للحرمان من الهدايا، انسحب الحضور.
ما يمكن قوله، إذاً، إن تغييب الحضور مردُّه دائماً إلى أمرين: حقيقته، وقصته (histoire). وبطبيعة الحال، قد تكون تلك قصته الحقيقية. ولكن، لأن الحضور قد هرب، فلم يعد ممكناً التيقُّن من أية قصة حوله قد تكون حقيقية بشكل مطلق، ذلك أنه ليس ثمَّة حضور يمكنه أن يشهد على صحَّتها.
ولذا، فإن ما يتبقَّى هو صراط مستقيم مقسوم إلى قسمين: الحقيقة والقصة. الأولى والأخرى من الأصل ذاته، ومتعلِّقتان بالشيء ذاته: إنه الحضور ذاته وقد انسحب. وعلى ذلك، فإن انسحابه يتجلَّى في الخط الذي يفصل الاثنتين: الحقيقة والقصة.
إن ما ندعوه الأسطورة هو حكاية أفعال الآلهة ورغباتها التي يكون دائماً من ضمنها ما يتعلَّق بالعالم ومسيره، والإنسان ومصيره. فالأسطورة تدلُّ على قولٍ ما، على شيء ما، يمكن للمرء أن يجعل عبره شيئاً ما معرَّفاً. وباللاتينية، حكاية الشيء (narratio) تحيل إلى المعرفة عنه. ولما كانت الآلهة قد انسحبت، فإنه لم يعد بإمكان قصتها أن تكون حقيقية ببساطة، ولم يعد بإمكان حقيقتها أن تُقَصَّ. ثمة غياب للحضور الذي كان من شأنه المصادقة على حقيقةِ ما يتم قَصُّهُ، كما هو الحال في المصادقة على حقيقةِ الكلمات التي تَقُصُّ.
ثمة غياب لجسد الآلهة. فأوزريس سيبقى مقطَّعاً، وإله الرعاة العظيم قد مات. وثمة غياب للجسد الحقيقي الذي كان من شأنه أن ينطق بحقيقة ذاته. إنه منحوتة مخضَّبة بدم الضحايا، مشبعة بأدخنة البخور، أو ربما حتى بالخشب المقدَّس الذي يمكن للمرء عبره أن يستمع إلى خرير النهر الذي يصبُّ فيه حضور تحت أرضي.
نقترف الرثاء بوصفه مواجهةً بلاغيةً أدركها الفوات


إن هذا الجسد المتكلِّم غائب. وما يتبقَّى هو ما يمكن أن نقوله عنه، والمقول (le dit) صار غير-جسديٍّ، كالفراغ، والفضاء، والزمن. وهذه هي الصور الأربع لغير-الجسديِّ، أي البرزخ الذي يمكن لبعض الأجساد أن توجد فيه، لكنها لن تكون جسداً واحداً أبداً. وهذا البرزخ مفتوح على نحو دائم ومقسَّم. المقول لم يعد معطى، أو مرتبطاً بالجسد الإلهي، كصلاة على شفتيه... إنه يصير منفصلاً عن الذات، يصير منتفخاً، يصير لوغوس.
وعلى ذلك، فالحقيقة والقَصُّ منفصلان. والانفصال مرسوم مسبقاً بالخط ذاته الناتج عن انسحاب الآلهة. فجسد الآلهة هو ما يتبقَّى بين الحقيقة والقَصِّ، يتبقَّى، هناك، كغيابٍ بمحض ذاته. يتبقَّى هناك كجسد مرسوم، ومجسَّد، ومقصوص، ولكنه لا يعود ذلك الجسد المقدَّس. بين الأدب والفلسفة ثمة شُحٌّ في الترابط، في الاحتضان، والائتلاف المقدَّس بين الله والإنسان، أي، بين الحيوان، والنبات، والبرق، والصخر. الانفصال بينهما، في حقيقة الأمر، هو اللا-ائتلاف، واللا-عناق. والائتلاف، الذي هو لا-ائتلاف في حقيقة الأمر، مقسَّم بأكثر نصل حدَّة ومضاءً: ولكن الجرح نفسه يبقى شاهداً أبدياً على التضافر. بين الحقيقة والقَصِّ، إذاً، ثمة شيء لا يمكن فصله.
الحقيقة والقصُّ منفصلان على نحو يجعل من انفصالهما ما يدشِّن منهما ذاتاً وآخر. ودون هذا الانفصال، لا يغدو هناك حقيقة ولا قَصٌّ. وهناك، سوف يثوي الجسد الإلهي. هنا، لا يكون القَصُّ عرضةً لافتقاد المصداقية وحسب، بل إنه محروم منها، كذلك، من حيث المبدأ، كونه محروماً من الجسد الحاضر بمنطوقه الخاص، وظهوره الخاص.
والحرمان، في الآن ذاته، هو حرمان من الحقيقة، وانكفاء لمبدأ الحقيقة نفسه. إنه الانسحاب الذي لا يمكن تجسيده ولا قَصُّهُ. هنا، تصير الحقيقة نقطةَ فَناء متحوِّرة إلى علامة استفهام. تصير الحقيقة سؤالاً: «ما هي الحقيقة؟» والتغلُّب على السؤال، المنبثق من الحقيقة، يبقى نقطة الفَناء، التصوُّر الذي لا حدَّ له عمَّا سيسمَّى، من الآن فصاعداً، لوغوس.
القَصُّ يُبدي الأجساد. إنه مكوَّن من الجسدنة عموماً، أي إنه مكوَّن من الخطاطة التي ينماز بها الجسد، ويصير جسداً في المقام الأول. ولكن الترسيمة التي تُبدي خطاطة الجسد (المشكوك فيه) حقيقيةٌ. فترسيمة القَصّ تفصح عن تجلٍّ ما للجسد الذي ليس من المؤكَّد أنه مطابق لتجلي الجسد «الحقيقي». أو بالأحرى، من المؤكَّد أنه ليس كذلك، إذ عبر تجسيد الجسد، يعلِن القَصُّ غياب الجسد. إنها الترسيمة ذاتها التي خلقت الله—الراهب بوصفه رأس الثعلب، أو حبيبات الصمغ التي على جذع الشجرة—والذي سيصير من الآن فصاعداً جسده. ولكن هذا التمثيل مفتقر إلى ذاته، إذ الجسد الإلهي مفقود في هذا المقام.
ولذا، فإن تصوُّر الحقيقة يتَّخذ من هذا الفقد موقعاً لما يتوق إليه، ولكنه الفقد المكرَّس للإظهار. وعبر إظهار الفقد—الجسد ذاته، المحاكاة، التمثيل، المجاز، الأسطورة، الأدب—يقول التصوُّر عن الحقيقةِ الحقيقةَ، أي إنه يقول إنها خاطئة (الخطأ، والوهم، والكذب، والخداع). وبقول هذه الحقيقة، فإن التصوُّر عن الحقيقة هو نصف الحقيقة، ذلك أنه ينقصه الحضور في ما وراء الجسد، أو في الجسد ذاته. ولكن خطاب الحقيقة يدَّعي أن هذا الحضور هو ما وراء الوجود (أي أنه مستعصٍ على التعيُّن). وهذا الخطاب نفسه يتقدَّم حتى ذلك الماوراء، حيث يفنى في ضوء هائل، وحيث الإبهار الذي فيه يختفي فيه كل تجسُّد ممكن. وبين الجسد والانبهار، يبقى غياب جسد الله. ما يتبقَّى، إذاً، هو جسد مفرد للغياب يتم التواصل معه من كل صوب للقَصِّ ولتصوُّر الحقيقة، حيث يصف الأول شكلَ الجسد، فيما يدوِّن الآخر طريقةَ التنقيب عنها. وبين الموصوف والمنقَّب عنه، ثمة كتابة (l’écrit) وحسب، ثمة خط بيانيٌّ محفور على رصاص الختم المثبت على موقع الانسحاب. إن هذا المشهد يُعرض حول قبر فارغ، مومياء خاوية، صورة وجهٍ لا يشبه أحداً... يُعرض المشهد، بعد الآن، ويُعلَنُ كـ«جسدٍ» أي كخارج غائب.
ولكنه مشهدٌ حقيقي، مشهدٌ يُعرَضُ على نحو فعَّال. إنه مشهدٌ للرثاء والرغبة في آنٍ معاً: الفلسفة والأدب، كلٌّ منهما في رثاء الآخر والرغبة فيه، ولكنْ كلٌّ منهما، كذلك، يتنافس مع الآخر في تحقيق الرثاء والرغبة.
وإذا كان الرثاء هو من ينتصر وهو من يصمت عبر إعلان دائم للصمت، فإن الواحد منهما، أو الآخر، يغرق في الميلانكوليا، مع غصَّة في الحلق على الجسد المفقود. ولكن الجسد المفقود هو، كذلك، الصورة التي يحتفظ بها الواحد عن الآخر: الفلسفة مختنقة بإمكانيَّتها كأدب، والأدب مختنق بإمكانيَّته كفلسفة، ولربما العكس.
في بعض الأحيان، يقوم الأدب بالرثاء الذي تحتملُ الفلسفة عبئه وتنكره. وفي أحيان أخرى، تطيل الفلسفة أمد الغياب الذي يتصنَّعه الأدب. ولكن إيماءة الواحد منهما، كذلك، تكون حقيقة الآخر. ويمكن حتى أن تكون هناك قصيدة فلسفية مستغرقة في الرغبة في الآخر. يخلص زرادشت بالتعجُّب: «وهل أتكدَّى لأجل نيل السعادة؟ إنني أتكدَّى لأجل عملي». ولربما كان هناك فكر، يرتبط، بلا كلل، بأبيات موجَّهة لفينوس، حيث تخلص قصيدة لوكريتيوس حول «طبيعة الأشياء» المكتوبة بانفعال هائل إلى القول:
«على وقع المحارق التي أُعِدَّت للآخرين،
والجلبة التي أثارها الرجال (حين) وضعوا أقاربهم عليها،
أوقدوا المشاعل، وشاركوا في الصراع الدامي،
بدل أن يتركوا الأجساد (وحدها)»
لا تتركوا الأجساد وحدها، حتى ولو كان الفعل منبوذاً. هذه هي المهمة. لا تتركوا أجساد الآلهة دون الرغبة في استدعاء حضورها. لا تتركوا جنازة الحقيقة ولا الجسد، ولكن لا تملأوا الفراغ الذي يفصل بينهما بالمعنى. لا تتركوا العالم، الذي يغدو دائماً عالماً أكثر: أكثر بفعل الغياب، أكثر في البرزخ، أكثر في اللا-جسدي، أكثر بلا تأتأة، أكثر بلا فحوى، أكثر بلا وحي، أكثر بلا ادِّعاء، أكثر بلا نبوَّة. إن غياب الآلهة هو الشرط اللازم لوجود الفلسفة والأدب. ففي الما-بين الذي يشرعن وجودَ الأول والآخر، يكون كلاهما غير-لاهوتي، وعلى نحو لا يمكن عكسه. ولكنَّ كليهما مسؤول عن رعاية الـما-بين: سدانة جسده المفتوح، وضمان امتلاكه لإمكانية أن يظل مفتوحاً.