«الواقع رهيب» كلمة سمعناها في «يد الله» (2021 ـــ جائزة التحكيم الكبرى في «مهرجان البندقية» الأخير)، آخر أفلام الإيطالي باولو سورنتينو (1970). عبارة تعبّر تماماً عمّا يفكّر به مخرج «الجمال العظيم» (2013): إنّه غير مهتم بالواقع. إذ إنّ سينماه تعيش في منطقة وسطى بين الخيال والهذيان والجمال المنمّق، كونه يشرب من بئر فيديريكو فيلليني ولا يخفيه، بل يفتخر به. مع ذلك، «يد الله» هو أقرب أفلام سورنتينو إلى الواقع، وأكثر أعماله شخصيةً حتى الآن. القصة التي يرويها هي قصته: مراهق يفقد والديه، يتغيّر مصيره بسبب هذه المأساة، ويكتشف بأنّ ما يريده هو رواية القصص. الغريب أنه في أكثر أفلامه حميميةً، تراجع خطوةً إلى الوراء في ما يتعلّق بالجماليات البصرية. فالفيلم أكثر أعماله تقشفاً واحتواءً. سرد سورنتينو فيلماً أكثر تقليديةً عن مخرج يتذكر والديه، ونضوجه، وفقدان عذريّته (مشهد قذر وجميل ومحزن في آن). هذه الخطوة إلى الوراء تركت مجالاً للحقيقة، للعاطفة، لهؤلاء الأهل وعلاقة الحب المليئة بالتفاصيل (مثل تلك الصافرة التي يندهون لبعضهم من خلالها)، لذلك المراهق الذي يواجه الحياة، لتلك العائلة التي تهتزّ بسبب هدف مارادونا الذي سجّله بيده في شباك المنتخب الإنكليزي في كأس العالم عام 1986. حركة اعتُبرت عملاً سياسياً وانتقامياً لحرب الفوكلاند. سورنتينو يلمس القلب، بفيلم مليء بالتفاصيل، وفي بعض الأحيان، يفقد التركيز ويتجاوزه. فيلم أصيل يُرينا سورنتينو الحقيقي برسالة الحب إلى نابولي، المدينة التي يحدث فيها كل شيء ولا شيء في آن. هنا تعيش المافيا، ويلوّح الناس بأعلام الأرجنتين، متحمّسين للاعب كرة قدم كأنّه إله. وبالنسبة إلى سورنتينو، هو كذلك، لذلك يبدأ فيلمه ببعض الكلمات له.

فابييتو (فيليبو سكوتي – جائزة أفضل ممثل في «مهرجان البندقية» الأخير)، واحد من ثلاثة أبناء لساڤيريو (توني سيرڤيلو) وماريا (تيريزا سابوناجيلو). عائلة من بورجوازييّ نابولي الطيّبين. يتتبّع «يد الله» هذه العائلة وتاريخها، ويقدّم سورنتينو قصته التي قرّر بسببها الانتقال إلى روما ليصبح مخرجاً. «في النهاية، تعود إليها، إلى هذه المدينة» هكذا قال المخرج أنطونيو كابويانو لفابييتو. أدخلنا سورنتينو إلى هذه المدينة. وقف فيها وتذكر مأساة وفاة والديه في يوم واحد. يعود سورنتينو ليبلّل ملابسه ببحر نابولي، لتكريم هؤلاء الذين شكّلوا وعيه كطفل ومراهق: والده، والدته، عمته، عمه القادر على تفسير هدف مارادونا الشهير كعمل سياسي، وطبعاً فيلليني وسيرجيو ليون وروبرتو روسيلّيني.
خلع المخرج ملابسه أمام الكاميرا، تاركاً وراءه الجماليات والزخارف غير الضرورية، مركّزاً فقط على الشخصيات


ذكريات يُعيد سورنتينو تشكيلها بطريقته: ««يد الله» هي التي خلّصتك، كانت هي». يصرخ ألفريدو (ريناتو كاربنتييري) بغضب، محدّقاً بفابييتو. «هل تعرف صوت الزورق عندما ينطلق بسرعة 200 في الساعة؟ توف، توف، توف» يقول الصبي الضائع أرماندو (بياجيو ماني) في طريق عودته إلى خليج نابولي. من خلال هذه الذكريات، قرّر سورنتينو التصالح مع الماضي، مع موت والديه، مع حرمانه من رؤيتهما قبل دفنهما. قرّر تكريم العائلة وأولئك الذين كتبوا تاريخه. للمرة الأولى، يخلق المخرج عملاً بسيطاً، أساسياً ويصل مباشرة إلى القلب ويزعجه، ويزعج الرأس، تاركاً مساحة صغيرة فقط للعواطف. عندما يتعلق الأمر بالحياة نفسها، هناك شخصيات جميلة، وأيضاً شخصيات بشعة سخيفة، لأن هذه هي الحياة. أحياناً تكون مأساوية وأحياناً هزلية. فابييتو يقول عبارة خطيرة، قالها في الأصل فيلليني: «السينما عديمة الفائدة، لكنها على الأقل تصرف الانتباه عن الواقع». سورنتينو يحب الناس، يجب نابولي، كرّس فيلمه لنفسه لشياطينه، لمارادونا، لذكرياته في فيلم فكاهي، بفكاهة سورنتينو الحمضية. ثبّت في الفيلم ذكرياته التي لا يمكنه أن ينساها ولا يريد أن ينساها. الذكريات التي شكلته، دفعته إلى اللجوء إلى تلك الكذبة التي هي السينما، لجعل الواقع أقل إثارةً للاشمئزاز.


كل لقطة، كل كلمة، كل لحظة صمت، تُخفي معنى مزدوجاً لسورنتينو. أراد إدخالنا إلى ماضيه، ولكنه في الوقت نفسه أراد أن يبقينا بعيدين قليلاً، تماماً كالسينما. هذا العمل هو فعل حبّ للسينما، للعائلة، لمارادونا، لنابولي. خلع سورنتينو ملابسه أمام الكاميرا، تاركاً وراءه الجماليات والزخارف غير الضرورية للقصة، وركز فقط على الشخصيات، على اللهجة، وعلى سمعة نابولي في إيطاليا. أربع مراحل مرّ بها الفيلم: الطفولة، المراهقة، المأساة والمرحلة الأخيرة، النضج. لحظة اتخاذ القرارات والخيارات، عندما تسحب رأسك من الحفرة وتواجه نفسك وتتوقف عن العيش في الماضي وتبدأ في التفكير بجدية في المستقبل.
حوار عظيم بين فابييتو والمخرج أنطونيو كابويانو يستمر طوال الليل ويبلغ ذروته في فجر نابولي. حوار يجب أن يسمعه كل من يريد أن يعمل في السينما. حوار غاضب يسلّط الضوء على أفكار حول السينما بغضب. لا نعرف بالضبط ما الذي سيفعله باولو سورنتينو بعد هذا الفيلم، بعد هذا التغيير الجذري والعنيف والشخصي. نعرف فقط أنّ لا عودة عن «يد الله»، لا للمخرج ولا لمحبّي السينما. فيلم غيّر نظرتنا للمخرج نفسه، تحدث معنا واستمعنا إليه. أوجعنا ثم أراحنا بلطف. في نهاية الفيلم، تريد البكاء، الاتصال بالأهل، بالإخوة، بالأعمام، والأجداد، وتلك الروابط الجيدة والسيئة التي تجعلنا نشعر مرة أخرى بالوحدة المرتبطة بالأماكن والذكريات والماضي.

The Hand of God
ابتداءً من 15 كانون الأول (ديسمبر) على نتفليكس