يوم الثلاثاء المقبل، تحلّ ذكرى رحيل فاطمة المرنيسي (مواليد فاس 1940 ــــ 30 تشرين الثاني/ نوفمبر 2015). على مدار ستّ سنواتٍ من رحيلها، ظلّت صاحبة «ما وراء الحجاب» سيّدة البحث السوسيولوجي النسوي في المغرب بامتياز. إلى جانب عبد الكبير الخطيبي، وبول باسكون، قدّمت كتاباتها صورة عن مغربٍ سوسيولوجيّ خارج من قهر السوسيولوجيا الغربية ونزعتها الكولونياليّة المركزية. كانت كتابات المرنيسي زمن السبعينيات والثمانينيات، تُشكّل فتحاً معرفياً داخل السوسيولوجيا المغربيّة، بخاصّة على مستوى الاهتمام بسوسيولوجيا الإسلام في علاقته بالمرأة وفهم واقعها ومآزقها داخل مجتمعٍ ذكوري. من ثمّ، كان البحث السوسيولوجي بالنسبة إليها يتخذ بُعداً تاريخياً وأركيولوجياً. ذلك أنّها لم تكتفِ واقعياً بما عرفته المرأة في البوادي والمُدن من عنفٍ وتهميش، بل ظلّت مُؤلّفاتها ترزح تحت ثقلٍ تاريخي تُنقّب فيه عن مكامن الخطأ داخل الموروث العربي الإسلامي. جاءت أطروحتها الجامعية حول المرأة والحجاب داخل المُجتمع الإسلامي نقداً مُعلناً لهذا الموروث. هكذا انكبّت المرنيسي لسنواتٍ طويلة على تشريح أفق العلاقة بين المرأة وتمثّلاتها داخل الإسلام، انطلاقاً من براديغم الحجاب والحريم والذكورية والجنس. ولأنّ التفكير السوسيولوجي في ذلك الحين، لم يكُن مُحبّباً من السُلطة والمخزن، بعدما قامت الدولة بإغلاق معهد السوسيولوجيا عام 1970، بدت صورة المرنيسي من خلال مؤلّفاتها حول السياسة والدين وعلاقتهما بالجندر كأنّها تسبح عكس التيار السُلطوي التقليدي السائد.
ظلّت مُؤلّفاتها ترزح تحت ثقلٍ تاريخي تُنقّب فيه عن مكامن الخطأ داخل الموروث العربي الإسلامي

شكّل إغلاق المعهد انتكاسة حقيقية في وجه سوسيولوجيا مغربيّة ناشئة، جعلت بعض الباحثين يُغيّرون قلاعهم البحثية، صوب مجالاتٍ أخرى من التفكير تتعلّق بالتحليل السياسي وكتابة المُذكّرات والتأليف الإبداعي. والسبب يعود أساساً إلى المكانة التي بات يحظى بها المعهد داخل مجال البحث العلمي، وكيف أضحى ينتج الأسئلة الحارقة حول مغرب الحداثة والتغيير. وهذا الأمر، لم تكُن تقبله السلطة التي عملت منذ البداية على تسييس الدين وجعله سلاحاً إيديولوجياً في مواجهة صنّاع الحداثة داخل المغرب، كتابةً وفكراً وفناً وإبداعاً، رغم أنّ بوادر التحديث السوسيولوجي، كان قد بدأ يطال المغرب منذ بداية السبعينيات على يد كل من بول باسكون وعبد الكبير الخطيبي.
شرّحت العلاقة بين المرأة وتمثلاتها داخل الإسلام، انطلاقاً من براديغم الحجاب والحريم والذكورية والجنس


منذ بداية مشوارها الأكاديمي، تخلّت عن السوسيولوجيا النظرية الغربية، مُحاولة نسف هذا الآخر المعرفي من كتاباتها، لكنْ بإعطائه بُعداً إجرائياً داخل تحليلاتها السوسيولوجية. لذلك، فإنّ القارئ لـ «هل أنتم محصّنون ضد الحريم؟» و«الجنس كهندسة اجتماعية»، يندهش من قدرة المرنيسي على تشريح واقع المرأة من منظورٍ مختلف. بدت كأنّها تستبدل علم الاجتماع بالتاريخ، والمنهج الكمّي بالأركيولوجي في دراسة براديغم الإسلام والمرأة والأيديولوجيا. مفاهيم ثلاث بقيت تُحرّك أغلب مؤلّفات المرنيسي قديماً وحديثاً. وإذا كانت صاحبة «نساء على أجنحة الحلم» قد ركّزت في تحليلاتها على السياقات التاريخيّة، فذلك يعود بشكلٍ جوهري إلى خصوصية المجال الذي تُساجل فيه. ذلك أنّ التفكير في الإسلام وتمثّلاته للعديد من الإشكالات المرتبطة بالمرأة العربيّة، أمرٌ يستدعي حصافة نقدية وترسانة مفاهيمية قوية وسياحة فسيحة في التاريخ الإسلامي خلال أزمنته المختلفة والمُتبدّلة.
لذا، فالمُتابع لنتاج المرنيسي الفكري، يكتشف، لا محالة، العمق التاريخي الذي تميّزت به كتاباتها. هي تُسافر في التاريخ لا لتبسط لنا وقائعه وأحداثه، بل لدراسته وتشريحه على ضوء المناهج الحديثة. لكنّ المدهش والعجيب في أبحاثها أنّ معارفها النظرية تبدو بعيدة وغير مألوفة داخل الفكر السوسيولوجي الفرنسي (بيار بورديو، نوربير إلياس) الذي ظلّ مرجعاً ونموذجاً لعددٍ من الباحثين المغاربة الجدد. لكنْ عند المرنيسي، تصبح الكتابة قلقاً وجودياً وفعلاً ذاتياً يُنفي إلى حد كبيرٍ النظريات البرانيّة الغربية، من خلال إعطاء أهميّة بارزة للعمل الميداني، وجعله مُختبراً لابتكار مفاهيمٍ وابتداع إشكالياتٍ، تعمل المرنيسي على توليفها ومحاولة ربط مضامينها ونتائجها مع ما يوجد في التاريخ العربي الإسلامي.
ولعل السبب في ذلك، لا تتحكّم به نوازع إيبستمولوجية وإنما ذاتية، تكمن في طريقة النظر إلى المجتمع المدني ومُعانقة أوجاع نساء في مناطق يبابٍ من المغرب المنسيّ، باعتباره معبراً لتأجيج التفكير السوسيولوجي. هنا تنسحب النظرية الاجتماعية إلى الخلف، مُفسحة المجال بقوّة لرصد الواقع وارتباكاته ونضارة التحليل وعمقه. في هذا الأفق، ستبرز المرنيسي كأوّل عالمة اجتماع مغربيّة، عطّلت علاقتها بالسوسيولوجيا الكمّية والرياضية والإحصائية، وتطلق العنان أكثر لمُخيّلتها المعرفية والإبداعية، بطريقة تجعلها تتوغّل عميقاً في التاريخ الاجتماعي للمرأة، إلى درجة أنّ بعضهم أعاب عليها هذا التعدّد المنهجي في مقاربة مفاهيم المرأة والإسلام في العصور الوسطى، على أساس أنّ الاستناد إلى التاريخ وأحداثه كأرضية معرفية، يُعطّل ملكة التحليل ويخفض منسوب التفكير في مفهوم الظاهرة، باعتبارها من معايير وسمات البحث الاجتماعي لا التاريخي.
يبدو ذلك صحيحاً، إذا ما أعدنا تأمّل وتعريف أبحاث المرنيسي الأخيرة وتخلّيها كلياً عن ملامح السوسيولوجيا كما بلورتها في مؤلّفاتها الأولى منذ أواسط السبعينيات، لتلتصق بشكل هوسي بشخصية شهرزاد، مُحاولةً إعادة تمثيل هذه المرأة عبر مجالاتٍ متعدّدة من البحث والكتابة والتخييل. مع العلم أنّ اللجوء إلى نمط الكتابة النسوية feminism لم يكُن يُضمر في طيّاته، إلاّ ذلك التحوّل الإيبستمولوجي الرهيب الذي ستشهده السوسيولوجيا المغربية منذ الألفية الثالثة، حيث سيتم استبدال البحث السوسيولوجي ونقده العميق للسلطة المركزيّة وحمولتها القمعية لصالح كتابة أدبية حالمة ونوستالجية تُحاكي استيهامات الجسد ومتاهات لا شعوره.