لا أعتقد أن هناك امرأة في البلاد العربية وحتى في العالم الإسلامي تعي وضعها وما هو عليه من تعقيدات لا تعرف فاطمة المرنيسي أو لم تطّلع على شيء من كتاباتها وآرائها. بالنسبة إليّ شخصياً، سمعت بفاطمة المرنيسي للمرة الأولى وأنا طالبة في الجامعة التونسية. وكان من أوائل المؤلفات التي اطّلعت وجيلي عليها وتركت أثراً في وعينا كتابها «الجنس، الإيديولوجيا، الإسلام» في منتصف الثمانينيات. كان ذلك الكتاب مدخلاً لفهم معنى النظام البطريركي/ الأبوي والتمييز القائم على الجنس والنسوية وغيرهما من المفاهيم ذات الصلة، وللوعي بأشكال من القهر المسلط على النساء لمجرد كونهن نساء. تتالت بعد ذلك كتاباتها وكان للتزامن بين ظهورها وصعود التيار الديني الإخواني في الجامعة التونسية وفي تونس عموماً، دور في الإقبال على تلك الكتابات. إذ كنا نجد فيها الحجة النقيض التي تساعدنا في مناقشة الأطروحات الإخوانية بشأن المرأة، وفي الرد على ما كانت تنشره زينب الغزالي وغيرها من أعلام الاتجاه الإخواني وإيديولوجيته المعادية لكل القيم المرتبطة بمبدأ المساواة وبمبادئ حقوق الإنسان للمرأة. وكان كتابها beyond the veil الذي استمدّته من أطروحتها للدكتوراه المقدمة في الجامعة الأميركية والذي ترجمته في ما بعد فاطمة الزهراء أزرويل تحت عنوان «ما وراء الحجاب، الجنس كهندسة اجتماعية» من أهم الكتب التي كانت تسعفنا برؤية أخرى مختلفة للحجاب تستند إلى استقراء الواقع التاريخي-الاجتماعي وإلى السياقات الموضوعية والثقافية التي أنتجت ظاهرة الحجاب في أكثر من ثقافة وفي مجتمعات متعددة، ولم تقتصر على النظر في النصوص ومجادلتها والبحث فيها عن الحجة. وكان ذلك بدوره مدخلاً بالنسبة إليّ وإلى جيلي للوعي بأثر الواقع الاجتماعي وملابسات التاريخ في تحديد واقع النساء، وفي إدراك أن هذا الواقع لم تبنه نصوص الدين ولا نصوص القانون إلا بمقدار ما كان لهذه النصوص من أثر في تشكيل الذهنيات والتمثّلات بشأن النساء وأدوارهن وأوضاعهن في المجتمع، وأنّ ما كان له أثر فاعل كذلك في تحديد تلك الأوضاع هو الوقائع المادية الاجتماعية والوعي بما يحكمه من بنى مادية ورمزية في الوقت ذاته. كما كان لمؤلفاتها دور هام في تصحيح الكثير من المسلّمات الخاطئة، ومنها مثلاً المسلّمة القائلة بأن النساء لم يكن لهن دور سياسي ولا فعالية في هذا المجال على امتداد المجال العربي الإسلامي وعلى طول تاريخه، بناءً على ما شاع من كون النصوص التشريعية منعت النساء من تولي وظائف سياسية وقيادية عامة. جاء كتابها «سلطانات منسيات» ليثبت عكس هذه المسلّمة ويبيّن، بناء على حجج فعلية واقعية يصعب دحضها، وليس على تأويلات لنصوص لغوية فحسب، ما كان لنساء كثيرات من دور سياسي مباشر أو غير مباشر، ظاهر تارة، خفي طوراً، إلا أنه همّش وهمشن معه بحكم هيمنة النظام والذهنية الذكوريين. ونظراً إلى أنّ فاطمة المرنيسي مالت إلى نفي أن يكون الدين بحدّ ذاته سبباً في ما عانته النساء في العالم الإسلامي وفي ما يعانينه حالياً من عنف وأشكال تمييز وحرمان من الحقوق الإنسانية ومن حقوق المواطنة، وأرجعت الأغلب الأعم من أسباب هذا الواقع إلى عوامل إما ذات طبيعة اقتصادية واجتماعية، أو ذات طبيعة ثقافية عامة وذهنية ورمزية لا تقتصر على الدين، أو إلى فهم المسلمين للدين وإلى طريقة توظيفهم له في حياتهم الخاصة والعامة، فإنّها مثّلت المنطلق لتيار نسوي جديد بدأ يتشكّل منذ أواخر القرن الماضي واتضحت معالمه في أواخر العشرية الأولى من هذا القرن هو تيار النسوية الإسلامية التي لا ترى تعارضاً بنيوياً بين القيم الكبرى التي يقوم عليها الإسلام، وتلك التي تدعو إليها منظومة حقوق الإنسان وحقوق النساء. وبصفة مجملة، يمكن القول إنّ مؤلفات فاطمة المرنيسي وآراءها ساهمت بفعالية في تشكيل وعي أكثر من جيل من النساء في البلاد العربية وفي توجيه عمل النسويات والحركات النسوية ونضالهن. وأكاد أجزم أنّ مؤلفات المرنيسي وعملها النضالي يمثلان مرجعاً ثابتاً من مراجع كل النسويات العربيات حتى وإن اختلف بعضهن جزئياً عنها في بعض الأطروحات والمواقف.

* باحثة وأستاذة بكلية الآداب والفنون والإنسانيات، في منوبة (تونس)