ما الجامع بين النسويّة والحداثة ودراسات ما بعد الاستعمار؟ وإلى أي حدّ كانت الخطابات العربية حول الحداثة مرتهنة للسياق الاجتماعي والسياسي وللعلاقات المتغيّرة وغير المستقرة بين مختلف الأنظمة العربية والغرب؟ وهل يمكن فهم التمثّلات التي صيغت حول مجتمعات «الشرق الأوسط» بمعزل عن براديغمات الطبقة، والدين، الإثنيات...؟ وكيف أسهمت مشاريع الإصلاح في عصر النهضة، في بناء أنوثات جديدة وتأسيس أنماط ذكوريّة مختلفة كانت الدولة القطرية بحاجة ماسّة إليها؟أسئلة شغلت عدداً من النّسويات فاهتممن بتحليلها وسعين إلى الإجابة عنها من خلال مشاريعهن الفكريّة. نسوق على سبيل المثال لا الحصر، ليلى أبو لغد، وميرفت حاتم، ونعمت حافظ بارزنجي، وهدى الصدة وأخريات. لم تكن المغربية فاطمة المرنسي معزولة عن هذا الحراك الفكري العابر للثقافات. إذ إنّها انكبّت على دراسة البنى الاجتماعية والسياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة والرمزيّة للمجتمعات القديمة والمعاصرة التي أثّرت في حيوات الأفراد، وخصوصاً النساء.
للا السعيدي ــــ «الحريم ـــ إعادة نظر» (2012)

ونلمح لدى المرنيسي تصميماً على إرادة الفهم وتصوّراً شموليّاً لأوضاع النّساء. إذ لا يمكن، في أيّ حال، فصل الاجتماعي عن السياسي، ولا فهم الأوضاع الاجتماعية والقانونيّة للنساء من دون ربطها بالمجال الاقتصادي والسياق الاجتماعي والسياسي... ضمن هذا التصوّر، تندرج أعمال المرنيسي التي أثّرت في أجيال مختلفة أكان على مستوى تنمية الوعي أو تطوير المناهج (1).
ولئن دأبت النّسويات الليبراليات والاشتراكيات وغيرهن على استبعاد براديغم الدين، فإنّ للمرنيسي الفضل في التنبيه إلى أهميّة اختراق النساء، والنسويات على وجه الخصوص، أسوار المعرفة الدينيّة التي ظلّت لقرون حكراً على الرجال. فليس التهيّب أو النفور من المبحث الدينيّ أو الإصرار على عدم خوض معركة مع «حرّاس الشريعة» في نظر المرنيسي، إلاّ علامة على خضوع النساء للعلماء الذين امتلكوا حقّ التأويل وروّجوا خطاباً حول النساء غير قابل للنقد. فليس أمام النساء اللواتي انتفعن بحقوقهن (التعليم والعمل والسفر...) إلاّ العمل على التحرّر من بُنى الهيمنة المتقاطعة بما في ذلك هيمنة قراءة على أخرى، وهيمنة تأويل على إمكانات أخرى للفهم.
وينتبه المتابع الحصيف لأعمال المرنيسي أنّها جدّدت عدّتها المنهجيّة، فلم توظّف ما وفّرته السوسيولوجيا من أدوات للتحليل فحسب، بل إنّها انفتحت على اختصاصات أخرى كعلم الحديث والفقه والتفسير والتاريخ والأنتربولوجيا والنظريات النسوية وغيرها. أمر يثبت أنّ الدراسات النسائية تتطلّب تمكّناً من علوم مختلفة ومناهج ومقاربات متنوّعة ولا يمكن للباحثات النسويات الاقتصار على اختصاص دقيق فقط.
قدّمت قراءة تفكيكيّة للدور الذي لعبه أبو هريرة في الترويج للأحاديث الضعيفة


تلتقي المرنيسي، في اعتقادنا، مع اللاهوتيات النسويات الغربيات في الإقدام على الانشغال بالنصوص التأسيسية وإخضاعها للتحليل وفق المنظور النسوي الذي يسمح للباحثة بالتعبير عن غضبها وصدمتها ودهشتها واستغرابها. ولذلك، نجد المرنيسي لا تتوانى عن إثبات أشكال تلاعب عدد من الفقهاء والمفسّرين المعادين للنساء بعقول الناس. فهؤلاء أوّلوا النصوص بطريقة تضمن مصالحهم وتعبّر عن أيديولوجيّاتهم والامتيازات الذكوريّة أو تخدم السلطة السياسية، وأوهموا المتقبّلين لخطاباتهم بأنّ قراءتهم للآيات والأحاديث هي القراءة الأكثر انسجاماً مع الإرادة الإلهية. ويكفي أن نتأمّل في قراءة المرنيسي التفكيكيّة لبعض الأحاديث الموظّفة لبيان دونيّة المرأة وللدّور الذي لعبه أبو هريرة في الترويج للأحاديث الضعيفة حتى ندرك المهمّة الشاقّة التي نهضت بها المرنيسي من أجل لفت انتباه المسلمات والمسلمين إلى أهميّة وضع هذا التراث تحت المجهر وتناوله من زاوية التحديق النسائي.
ويمكن تفسير اهتمام المرنيسي بإعادة النظر في أسس الثقافة الإسلامية وإعادة قراءة المصادر التاريخية للإسلام المبكر وأعمال أشهر الفقهاء والمحدّثين والمفسّرين بأنّه محاولة لتصحيح بعض المفاهيم التي قدّمها المستشرقون أو تداولها عدد من المختصين في الدراسات الدينية ومن لفّ لفّهم كالدارسات المعبّرات عن توجّه النسوية البيضاء المتمركزات على ذواتهنّ. ولا شكّ في أنّ انكباب المرنيسي على عمليّات الإعادة: إعادة النظر، إعادة المراجعة، إعادة القراءة... كان له أثره في تصنيفها ضمن الدارسات المؤسِّسات لتيار النسوية الإسلامية، وهو أمر أثار جدلاً كبيراً بين النّسويات في العالم. فهل أنّ المرنيسي نسويّة مسلمة أم من النسويات الإسلاميات؟
وبقطع النظر عن إشكالية التصنيف، فإنّ إصرار المرنيسي على أنّ القرآن يتضمّن آيات كثيرة مؤسّسة للنزعة المساواتية بين الجنسين، وأنّ أغلب الفقهاء والمفسرين هم الذين حرصوا على إقصاء النساء واستبعادهن تأثّراً بالديانات السّائدة ورغبة في المحافظة على النظام البطريركي والضبط الاجتماعي، يجعلها في تناغم مع الرؤية التي رسّختها أمينة ودود، وأسماء برلاس، وزينة أنور، وأميمة أبو بكر وغيرهن من المنتميات إلى النسوية الإسلامية. يُضاف إلى ذلك بحث المرنيسي عن النماذج النسائيّة التاريخية المعبّرة عن الفاعلية والوعي كتركيزها على دراسة شخصية أمّ سلمة التي كانت تدلي بدلوها في المسائل الدينية وتناقش الرسول في بعض الآيات التي تخاطب الرجال دون النساء. يُضاف إلى ذلك بحث المرنيسي عن مقوّمات مشروع «العدالة الجندرية» في سيرة الرسول، بخاصّة في فترة استقراره بالمدينة.

بحثت عن مقوّمات مشروع «العدالة الجندرية» في سيرة الرسول، بخاصّة خلال فترة استقراره في المدينة


تلحّ المرنيسي على الحفر في كتب التراث من أجل البحث عن المخفي والمستبعد والمغيّب في أعمال المؤرّخين والمدوّنين لمختلف العلوم حول أفعال النساء في التاريخ ومواقفهنّ وأشكال حضورهنّ وتعبيرهنّ عن الآراء والمواقف. ذلك أنّ تجميع أخبار النساء الفاعلات والمتمكنات من إبداء الرأي بكلّ جرأة مشروع أساسي من أجل تحويل النساء إلى مرئيات وتصحيح المفاهيم والسرديات. والمرنيسي إذ تحثّ الدارسات على القيام بهذا الجهد «التصحيحي»، تحاول أن تثبت أهميّة كلّ مشاريع التمكين النسائي: التمكين السياسي، والتمكين الاقتصادي، والتمكين الثقافي، والتمكين الديني، والتمكين المعرفي. وترى المرنيسي أنّ السياق المعاصر ملائم لإنجاز هذا المشروع الضخم، لاسيما بعد ظهور الثورة الرقمية التي أتاحت للنساء تبادل وجهات النظر والتجارب ومناقشة الآراء وتنظيم العمل من أجل تغيير الواقع.
ونظراً إلى أنّ المرنيسي احتكّت بشخصيات غربية كثيرة واطّلعت على أعمال عدد كبير من المثقّفين/ات وعاشت تجارب مختلفة في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية، فقد أمكن لها رصد تجليّات المركزيّة الغربية، وأثر الفكر الاستعماري، والثقافة الاستشراقية المتسلّلة إلى المجتمعات العربية والإسلامية. ولم تتوقّف المرنيسي عند الملاحظة والتحليل، بل انطلقت في التنديد ببعض الممارسات والتصوّرات وسعت إلى تعرية أنساق التمثيل وبيان تهافت سرديات عدد من المثقفات والمثقفين.
ولعلّه من المفيد التنبيه إلى الدور الذي نهضت به المرنيسي من أجل حث النساء على فهم واقعهن وتاريخهن ضمن سياق احتدم فيه النقاش بين المدافعين عن سياسات الهويّة والمطالبين بالوقوف ضدّ الاستعمار الذي يرغب في «تغريب» الأجيال الجديدة، وخاصة النساء من جهة، وأنصار الفكر الاستشراقي والنزعات الكولونيالية من جهة أخرى.
وعلى هذا الأساس، يكون مشروع المرنيسي متأسساً على تحرير النساء من هيمنة قراءة بطريركية وفي الوقت ذاته، تحريرهن من سطوة الآخر المتمركز على ذاته وثقافته، وقد تكفّلت المرنيسي بتوفير عُدّة منهجيّة تسمح للنساء من امتلاك الصوت وكتابة سرديتهنّ وتاريخهنّ.

* أستاذة الدراسات الجندرية في جامعة منوبة/ تونس
(1): كان لنا شرف التواصل مع هذه الشخصية الفكرية والنسوية القدوة والتعلّم منها والاستئناس بتجربتها والإحالة على أعمالها ومواقفها في دروسنا. ولئن كان تصميمنا على تدريس بعض نصوص المرنيسي له ما يبرّره في ماجستير الجندر والثقافة والمجتمع الذي نشرف على إدارته، فإنّ إدراج نصوص المرنيسي في درس الإسلاميات وفي درس أعلام فكر النهضة له أهميّة بالغة. إذ يُنظر إلى إنجازات عصر النهضة وما تلاها من خلال سير المصلحين والمفكرين والمثقفين ويتم التغاضي عن المشاركة النسائية.