باريس | «كاتب القطيعة والمغامرة الشعرية والنشوة الحسية، مستكشف البشرية ما وراء الحضارة السائدة وتحتها». بهذه الكلمات الشعرية حيّت الأكاديمية السويدية في بيانها جان ماري غوستاف لوكليزيو (1940) إثر فوزه بجائزة «نوبل» للآداب عام 2008. الروائي المتعدد الهويات، المتشابك الجذور بين الأم الفرنسية والأب البريطاني من جزيرة موريس الذي عمل طبيباً عسكرياً في أفريقيا، ظل طوال عقود يبحث في التباس الانتماء والهوية الذي وجد نفسه فيه. انجذب إلى كل ما هو هجين وخلاسي ومهمل، وإلى كل ما تعرض إلى التهميش والإبادة في الثقافات والحضارات الإنسانية، منحازاً دوماً إلى البدائية، إلى صرخات خارجة من اللحم. يرى الحضارة انهياراً متواصلاً، وبما يتخطى هنري ميشو وأوزفالد شبنغلر الذي انهوس بكتابه «سقوط الغرب». ينحدر الفرع الموريسي من عائلة لوكليزيو من جد مغامر ومتمرّد، رفض تسجيل اسمه في قائمة الجيش الثوري أثناء الثورة الفرنسية لأنهم اشترطوا عليه قصّ شعره الطويل، فما كان منه إلا أن فرّ من فرنسا عبر البحر وكان ينوي الذهاب الى الهند.
لكنه غادر المركب البحري الذي كان يقله مع عائلته عندما حط في جزيرة موريس.«أشعر دوماً أنني قريب لهذا النمط من الناس حيث يذهب المرء منفياً إلى أقصى حدود الدنيا كي يفلت من فعل أمر يجبر عليه و هو لا يريده» يقول لوكليزيو الذي جعل هذا الجد الشخصية الرئيسية في كل رواياته.
السمة المشتركة في روايات لوكليزيو وقصصه، هي انفتاحه التام على جميع الفضاءات والثقافات بعيداً من النظرة المحلية المتقوقعة. إنه رحّالة معاصر، حامل إرث إنساني ثري من مزيج ثقافات مختلفة لا يعترف بالحدود والحواجز.
يلتقط ما يراه ويسمعه ويتذكر ما عاشه في طفولته ومراهقته ثم يلملم كل ذلك من خلال علاقات القسوة واللامبالاة وانسحاق الإنسان تحت وطأة الإسمنت وفضاءات المدن المفترسة. تعتبر تجربته ذات فرادة أسلوبية تجاوزت ما أنجزته موجة الرواية الجديدة في فرنسا، لتحقق الرواية المفتوحة على الشعر والوثيقة والبحث الأثنولوجي واليوميات، ما يُرغم القارئ على فتح سجالات كثيرة في الثقافة والأدب للتمكن من مواجهة نصوصه.
ورغم أنه حرص على أن يعيش بعيداً من الأضواء والإعلام، إلا أنه صريح في مواقفه على الدوام، مثير للجدل، لأنه يخترق القواعد والبديهيات ويضع السؤال أفقاً للكتابة، «السؤال باعتباره الحركة التي يغير فيها الوجود مجراه» كما عبّر عن ذلك موريس بلانشو. يرتاد لوكليزيو ما يكشف الكينونة وهشاشتها وآلام البحث عن الذات التي لا تكاد تستقر عند هوية ثابتة.
يبدأ من الحلم والطبيعة وتلقائية العواطف، بوصفها عناصر للمقاومة وتشييد عالم ممكن. الخطاب في رواياته يتقمصه أطفال ومراهقون يريدون أن يفصحوا عن بضع كلمات قبل أن يختفوا في زحام عالم الكبار وكوابيسه. كأن لوكليزيو يريد أن يختلس بضع ثوان أو لحظات من حياة آفلة ومنقضية لا محالة. هذا الإحساس التدميري بالفناء والزوال هو محرّك تجربته ودفقها الحيوي المدهش.
إنه «ثرثار كبير» يسجل كل شيء، يلتقط التفاصيل التي تصبح روايات رغماً عنه، تفلت الشخصيات وتتضخم الحكاية، ما يدفعه لأن يسأل إن لم يكن ذلك يشبه نوعاً من الغزو الجرثومي.
«إن للخيال جانباً يشبه الغرغرينا.. جانب غازٍ» يقول.
تأتي روايته الصادرة أخيراً تحت عنوان «عاصفة» (قصتان عن «دار غاليمار» ـ 2014) لتنضم إلى ما يتجاوز 40 كتاباً.
ما دفع صاحب «الباحث عن الذهب» باتجاه ثقافات أخرى في أماكن مختلفة من هذا العالم هو «البحث عن الجانب الخفي غير المستكشف وشديد الثراء من الكائن الإنساني تحت غطاء ثقيل من ستار العقلنة». هو النادم على الانفصام الذي فرق بين الانسان والاسطورة، تأثر خلال مساره الأدبي ومن خلال أسفاره العديدة، بتجارب الشعوب البدائية في المكسيك وباناما وغيرهما.
يروي قصة إحدى رحلاته بين بلدان أميركا اللاتينية، أنه كان على متن إحدى الطائرات الصغيرة وكان قريباً من الطيار المغامر الذي يشبه رجال الأدغال في الأمازون.
أخذ الفضول لوكليزيو وهو يجول بنظره على الغابات المترامية والجبال الخضراء تحلق فوقها نسور الإنديز، فسأل الطيار عمَّا سيحدث لو توقفت الطائرة في الجو عن الحركة؟ فما كان من الطيار إلا أن أوقف المحرك على الفور فبدأت الطائرة في النزول إلى المصير المجهول الذي يلفه ضباب الموت، ثم أشعل المحرك واستأنف الرحلة من جديد. هذه الحادثة ستجعل لوكليزيو سائحاً يبحث عن كل جمال يكتنفه الغموض والخطر.
قد نعترضه في مدينة نيس متنكراً، مختبئاً من الفضوليين وراء نظارات شمسية ينتعل صندلاً فوق الجوارب، ويحمل آلة تصوير على كتفه ليوثّق ما يراه قبل الرحلة المقبلة. يقول «لا أستطيع أن أتقبل فكرة أن أكون منتمياً كلية لعالم أو لآخر، أنا محتاج إلى اللاّتوازن وإلى بابين».

كل كلمة جرحاً ملتئماً



قد يجوز القول إنّ «عاصفة» لوكليزيو تتحرك في مناخات ذاتية ونوستالجية وسياسية. وإذا كان العنوان مفتاحاً للعمل الأدبي، فإنّه هنا يتجاوز ذلك ليكون الناظم الذي تتمحور حوله الشخصيات التي تعيش تحت رحمة تلك «العاصفة» لتبدأ رحلة الصمود أو السقوط. لوكليزيو المفتون بالطقوس والعادات التي تمارسها الجماعات المهملة في أنحاء مهجورة من العالم، يأخذنا في أول «نوفيلا» إلى بحر اليابان. يبدأ من تساؤل سيوران عن «لون الندم» ليخرج علينا بشخصية «فيليب كيو» الذي يحمل اسم بطل رواية «قدر الإنسان» لأندريه مالرو، وهو مصوّر ومراسل حربي يعود إلى جزيرة أودو الكورية باحثاً عن آثار حب قديم. يأتي الإيقاع بطيئاً مثل المخدّر في بادئ الأمر، ويكشف السرد تدريجاً عن الخلفية الحميمية لشخصيات تتخبط في أشراكها وسط عتمة المصائر والآفاق، فنعرف أنّ السيد كيو مثقل بذكريات لا ترحم. أثناء الحرب، شهد حادثة اغتصاب من دون أن يحرّك ساكناً. وإثر خروجه من السجن تعرف إلى ماري سونغ التي كانت مغنية في أحد الفنادق السياحية للأثرياء. غادرا معاً إلى هذه الجزيرة بحثاً عن «الصمت والعزلة» قبل أن تذهب ماري في أحد الأيام للسباحة ولا تعود أبداً، «هي التي تشرب أكثر مما يمليه العقل». بعد 30 عاماً، تُفتح أبواب النجاة لفيليب كيو حين يتعرف إلى جون، فتاة من دون أب تعمل أمها مع «نساء البحر» اللواتي يغطسن لصيد المحار وكل ما يمكن بيعه للسياح. يقول: «لقد وضعت الصدفة على طريقي ملاكاً، طفلة بريئة وطريفة. إنها المرة الأولى التي التقيت فيها بإنسان»، الإنسان بحسب لوكليزيو كان عليه أن يكون ملاكاً.


يفتح السرد على اصطلاح
يومي مهمل وقاموس صوري

والطفولة أرض مجهولة لا يمكن بلوغها إلا بالحنين، لا يتوقف عن سبرها ومحاولة استعادتها في النص الثاني«امرأة بلا هوية». هنا، تتوقف حياة راشيل حين تسمع إثر شجار بين والديها أنها بلا أم. تغادر ساحل غانا عند اندلاع الحرب وتهيم في ضواحي باريس، يظل ذهنها منجرفاً إلى الماضي، تتساءل ما إذا كانت مجرد شبح في أذهان الآخرين وتتوجع من شدة الحاجة إلى إقناع نفسها بأنها موجودة في هذا الواقع. كي تثير العيون العمياء إلى وجودها، تبدأ الارتطام بالناس وتعيش حياة التشرّد. تصارع وتنزف في ثورة مسعورة. وإذا كانت اللغة تتأنى كي لا تنزلق إلى الشاعرية في القصة الأولى، فإنها هنا مغلّفة بغضب عاتٍ تتحدى واقع الضواحي الإسمنتي، بكثير من العمق المستلهم من فطرية مراهقة تتمعن في الأشياء، من دون أن يزعجنا ذلك كقرّاء. يبحث لوكليزيو عن معادلة إنسانية بسيطة. يحيط شخصياته الهشة بأسباب الألم وبأسباب البقاء على قيد الحياة، ويفتح السرد على اصطلاح يومي مهمل وقاموس صوري يحصل على مفرداته من مشاهد واقعية أو متخيلات. ونلاحظ أنّ أوصاف جول فيرن في رحلاته العجائبية تلقي بظلالها على بعض المقاطع، الكلمات «ريح، ليل، عاصفة» تتكرر باستمرار، تصيبنا بدوار البحر. كل كلمة هي أثر جرح ملتئم، وكل جرح نتيجة تصادم غير متوقع مع العالم.
أحلام...