تُضيء سماءَ دمشق المستلقية على سفح قاسيون أضواءٌ تؤْذن ببدء عامٍ لا يشبه سواه ممّا عرفته الذاكرة الحديثة  للمدينة ذات الألفيّات العدة، إذ تتوَّج شآم هذا العام عاصمةً للثقافة العربية.ضربت الفعالية ذاك المساء موعداً للمدينة مع نحو عشرة آلافٍ من أبنائها الذين تحدَّوا صقيع كانون وتجمهروا بمحيط كيلومترٍ من مركز الاحتفال في ساحة الأمويّين لحضور العرض الافتتاحي الشعبي، بينما تسمّر الملايين في منازلهم لحضور النقل المباشر للحفل على شاشةٍ محليّة هجروها منذ زمن.
تناهت إلى الأسماع منذ جرى البدءُ بالتحضيرات للفعالية أسماءٌ كثيرةٌ من أعلامِ الثقافة والفنون بمختلف أشكالها، سيكون لأبناءِ هذه الحاضرة لقاءاتٌ معها تباعاً على مدى العام.
لعلّ أبعد هذه الأسماء عن إمكانية التصديق لدى الكثيرين كان اسم فيروز، فبقي الخبر في خانة الشائعات أسابيعَ عدة، إلى أن تمّ تأكيد الخبر بما لا يحتمل الشك حين أُسدل الستار عن برنامج الفعالية في افتتاحٍ رسميٍّ استضافته دار الأوبرا بفارق ثمانية أيام عن الافتتاح الشعبي.
هي إذاً حقيقةٌ أقرب إلى الخيال لدى أجيالٍ فاتها قطار الزمن الجميل، إلّا أنّها أبت أن يجرفها تيار الزمن الرديء. نعم، ستشهد دمشق بعد 23 عاماً عودة فيروز في إعادةٍ لمسرحيةٍ شهدت خشبةُ معرض دمشق الدولي عرضَها للمرّة الأولى عام 1970. كان «صحّ النوم» عنوان عودة فيروز إلى دمشق بعد غياب، علّ الذكرى تنفع المؤمنين.
لربّما أشفق منظّمو الفعالية على مواطنيهم لصعوبة الانتظار، فلم يجعلوا الموعد مع فيروز أبعد أكثر، فكان 28 كانون الثاني تاريخ أول عروض الأيام الستّة للمسرحية التي اتخذت من مسرح دار الأوبرا خشبةً لها. لم تنقضِ ساعاتٌ قليلة حتى ملأت صور «قرنفل» بمظلّتها الشهيرة أكبر اللوحات الإعلانية في شوارع العاصمة.
تراوحت أسعار البطاقات التي طُرحت للبيع وقتها بين ما يعادل 100 إلى 500 دولار، وأستطيع أن أصفها اليوم، وقد حضرتُ ما حضرتُ من عروض على مسارح مرموقة، بالأغلى عالمياً، لا بل بالجنونية، لا انتقاصاً من فيروز ومَن رافقها على الخشبة من أقدر الممثّلين أمثال أنطوان كرباج وكثيرين غيره، بل لاستغلال المنظّمين لعاطفةِ شعبٍ تجاه صوتٍ هو وليف صباحاتهم وخزّان شعورهم.
أسبابٌ عدة حالت دون تمكّني من الحصول على بطاقة لأيٍّ من عروض الأيام الستّة، كان أحدَها نفاد البطاقات من شباك التذاكر بسرعة البرق، وليس آخرَها تزامن فترة طرح البطاقات للبيع وكذلك فترة العروض مع امتحاناتي الجامعية.
الثالث من شباط، الصباح التالي للعرض الأخير، واليوم الأول من عطلتي عقب انتهاء الامتحانات. الساعة الأولى من صباحي مخصّصةٌ لتصفّح «جريدتي اليومية»، أو هذا ما أحب أن أطلقه عليها، لمتانة ما ينشأ من علاقةٍ بيني وبين الورقيات.
احتلت المسرحية الصفحات الأولى بالصور والعناوين العريضة على مدى الأيام الفائتة، حتى ليجدَ بصرُ القارئ صعوبةً في التنبّه لخبرٍ مجهريٍّ اختبأ في مكانٍ ما في الصفحات الأخيرة، مفاده أن فيروز وبعد ما لمسته من تفاعلٍ وحبٍّ من جمهورها، قرّرت تمديد عروض المسرحية عرضاً إضافياً هذا المساء، تخصُّ به محبّيها ممن هم ما دون السادسة والعشرين عاماً، ولا يتجاوز سعر البطاقة 20 دولاراً. لم تنته باقة المفاجآت هنا، إذ تمّ حصرُ البيع بالمركز الثقافي الذي لا يبعد سوى كيلومترين اثنين عن منزلي. لم يعد لديّ متسعٌ من الوقت لسبر حظوظي الضئيلة أصلاً في الحصول على بطاقةٍ لعرض اليوم السابع!
لم أكن بحاجةٍ للوصول إلى المركز الثقافي كي أبصر تجمع الشبان والشابات والآباء والأمهات ممن أرادوا أن يطبعوا ذاكرة أطفالهم بتجربةٍ من المستبعد أن يختبروا نظيرها. ولم أكن بحاجةٍ كذلك لسؤال أي منهم عن ساعة وصولهم، إذ كان يكفي أن أسير بمحاذاة صفهم الطويل لألتقط «نحن هون من السبعة» من هنا، و«نحن هون من الستة ونص» من هناك.
أَصِلُ بدايةَ الصف. «نحن هون من الخمسة ونص» تجيبني والدةٌ حضرت مع زوجها ليحصل أحدهما على بطاقةٍ لابنهما ذي السنوات العشرة، والآخر لابنتهما ذات السنوات الثمانية، إذ من رابع المستحيلات حصول الشخص على أكثر من بطاقةٍ واحدة.
ثوانٍ قليلة، وإذا بشباك البيع يفتح، وبثلةٍ من الموظفين ينظمون عملية الدخول والبيع. غمضة طرفٍ بيعت معها البطاقات الأولى. يجرفني السيل البشري... مكاني ليس هنا، بل في آخر الصف، فأنا لم أَصِلْ «خمسة ونص»، ولا «ستة» ولا حتى «ستة ونص»، حتى إن جريدتي التي أخبرتني عن العرض الإضافي ذاك المساء لم تتمكن من الوصول قبل السابعة صباحاً!
«معنا، معنا..» يخبر الوالدان الموظف المسؤول عن تنظيم البيع، في إشارةٍ إلي، وإذا بي أحصل بسرعة البرق الذي اختفت معها بطاقات الأيام الستة على بطاقةٍ لعرض اليوم السابع! كانت البطاقة نموذجاً مصغّراً للإعلانات الطرقية التي طبعت ناظرينا ورافقتنا في تنقلاتنا على مدى الأسابيع الفائتة. لا أذكر اليوم إن كنت قد شكرت هذين الوالدين بالقدر الكافي لحظتها، فقد حدث كل شيء بسرعة فلكية، غابا بعدها عن ناظرَي وسط الزحام.
كان توزيع الجلوس ذاك المساء عشوائياً وغير خاضع للأرقام، فقُدّر لي الجلوس في الشرفة المركزية. أعلنَت الساعةُ الثامنة والنصف بدءَ العرض. يعرف كل من حفظ المسرحية عن ظهر قلب أنْ ما من ظهورٍ لفيروز في أي وقتٍ قريب. عشرون دقيقة طويلة مضت قبل انضمام «قرنفل» إلى العرض مديرةً ظهرها بالكامل للحضور، حاملةً مظلتها، حاميها الوحيد بعد أن انهار سقف بيتها. إصلاح السقف بالطبع بحاجةٍ لختم الوالي الذي يغطّ في نومٍ عميق لا يستفيق منه إلا مرةً كل شهر، يختم فيها ثلاثة طلباتٍ قبل أن يُعاود نومه شهراً آخر.
من أعراف المسرح عدم إدارة الممثّلين ظهورهم بالكامل للحضور، والحرص عند الضرورة على الاستدارة الجزئية، أقلّه بزاوية 45 درجة، لكن فيروز استثناءٌ لكل قاعدة، إذ استغرق الأمر خمس عشرة دقيقة منذ اعتلائها خشبة المسرح كي تستدير «قرنفل» كاشفةً وجهها للحضور.  أكاد أجزم أن ما صدر عن الحضور من «هيصة» وتصفيق لحظتها ممتداً على دقائق عدة كان كفيلاً أن يُشهِدَ أهل العاصمة برمتها على ما تعنيه لهم تلك المرأة التي وقفت مثقلةً بأعوامها الاثنين والسبعين ومظلّتها، تؤدّي على مدى ساعة ونصف الساعة عرضاً مسرحياً لم يكن مخطّطاً له، لِمن كانوا بعُمْرِ أحفادها لو قسمت لها الحياة أن تغدو جدة.
أكذب إن قلت أني استطعت تمييز  تعابير وجه فيروز أو أيٍّ من الممثلين بوضوح من مكان جلوسي، وليس هذا بضرورة في العروض المسرحية بقدر ما يكون الاعتماد على المشهدية بمجملها من حركة الشخوص والأزياء والديكورات والموسيقى المرافقة، وهو ما لا ينقص أياً من مسرحيات فيروز. مع ذلك، كنتُ ساخطةً يومها على حدة بصرٍ خانتني حيث كنت أجلس، فما كنتُ قادرةً على الرؤية بأوضح مما نراه في الأحلام، حتى راودتني شكوكٌ لوهلةٍ إن كان قد أصابني الوالي بعدوى النوم، مع استثناءٍ وحيد، إذ كانت المرة الأولى التي تُرنَّم على مسمعي «يالله تنام ريما» ولا تؤدّي مفعولها، والأكيد أنّ «صحّ النوم» ما كانت لتُقال لي يومها.
وجدتني وأنا على طريق العودة من العرض ممسكةً بشدة ببطاقةٍ حصلتُ عليها بسورياليةٍ مطلقة، كدليلي المادي الوحيد أنّي كنت حاضرةً في الحفل، وأنه ما كان حلماً أو تداخلاً للحلم بالحقيقة.
«أنتِ إجمالاً حظك حلو بالمسرحيات والحفلات الموسيقية...» تذكرني والدتي من آن لآخر.
«يمكن بس بالمسرحيات والحفلات الموسيقية..» يكون جوابي.
لم أكن حاضرةً ذاك المساء بالأصالة عن نفسي وحسب، لقد كنت حاضرةً بالنيابة عن والدَيَّ والمغتربين من عائلتي ممن لم يتسنَّ لهم الحضور، لقد كنتُ حيث كان ينبغي لهم أن يكونوا.

* مساء الجمعة 11 كانون الثاني (يناير) 2008