«تعيش في الألوان ككيانات ماورائيّة»، هكذا قالت ايتل عدنان عن فنّها. فقد بدأت ترسم عام 1960، عندما اتخذت قراراً بعدم الكتابة باللغة الفرنسية بعد الحرب الجزائرية. لا تدّعي ايتل أنها تعرف تلك العلاقة بين فنها وكتابتها لأنّ هناك أسراراً كثيرة في هذا الكون، لكنها ترسم بسعادة وهو الشيء الذي يسعدها كما تقول. تأثرت ببول كلي، وكازيمير ماليفيتش، وكاندينسكي ودولاكروا ومن المعاصرين: أغنيس مارتن، والألماني سيغمار بولك. أما الفرنسي نيكولا دو ستايل، فهو يمثل نقطتها المرجعية الواضحة. المُطالع لأعمال ايتل الفنية الهادئة والبسيطة قد يعتقد أنّها انعكاس لحياتها، لكن حياتها كانت صاخبة لأنها ببساطة إنسانة تسكن الكون. فهي التي سكنت بيروت لأب سوري وأمّ يونانية، وكانا يتحدثان التركية في المنزل. انتقلت إلى باريس ثم إلى أميركا لإكمال دراستها في فلسفة الفن. أدركت ايتل أنها من خلال الرسم تستطيع أن تعطي عالماً ومكاناً أفضل لمشاعرها. لذلك كانت لوحاتها المجردة طبيعةً بصريةً تمتد أمامنا. إنها الأماكن التي عاشتها وتخيّلتها وأحبّتها. فهي تحب الطبيعة وتحب الكون كما قالت أكثر من مرة. عاشت في العقود الخمسة الأخيرة من حياتها في سان فرانسيسكو، وحولها جبل مارتن هيدلاند وجبل تامالبايس. وكما تأثر سيزان بجبل سانت فيكتوار، كانت علاقة ايتل بالجبال والطبيعة قوية. لذلك، فإنّ صدى الجبال والبحر والسماء يُسمع من خلال لوحاتها. في الواقع، تعود علاقة عدنان بالجبل إلى منتصف الستينيات حين انتقلت للعيش في كاليفورنيا قرب جبل تامالبايس، فقد أصبح هو منزلها كما تردد دائماً. يتناسل هذا الجبل في نتاجها الأدبي والفني، فقد خصّته في كتاب بعنوان «رحلة إلى جبل تامالبايس» (2007 ـــ نقلته إلى العربية أمل ديبو). الجبل بالنسبة إلى ايتل كتابها المفتوح، رحلة جوانية معراجية بقدر ما هي رحلة في عالم العناصر.
«حرية الشعوب» (دفتر ليبوريللو - حبر وزيت وباستيل على ورق - 2011)

أما القمر، فله حكاية أخرى في لوحاتها. لعلّها استلهمت وجوده من لوحات مُلهمها بول كلي. فهو غير مكتمل أحياناً. ووراء الأحجام والألوان، هناك انكسارات خفيّة حيث نلاحظ الهشاشة التي هي أقرب إلى الطبيعة الفطرية التي تتميز بالبساطة العميقة.
إنها لغة جمالية تعطينا الإحساس بأننا أمام طبيعة من نوع آخر، لأنّ لوحاتها المجردة تتعلق كثيراً بشيء في داخلنا أكثر ما تتعلق بالطبيعة الخارجية. إنها قدرة ايتل على تحويل الطبيعة إلى أشكال هندسية هادئة وخافتة كأنّ الطبيعة تهمس لنا. هذه الأعمال الفنية هي نوافذ على ذاكرة إيتل عدنان الصاخبة بالأمكنة التي تعكس حساسية ايتل تجاه الألوان والأشكال وليس فقط تجاه الطبيعة.
لا أشخاص في لوحاتها الفنية الزيتية. وكما تتحدث عن وجه العالم الاجتماعي والسياسي في كتابتها، فهي تعكس وجهه الطبيعي والفيزيائي في لوحاتها. في بيروت، كانت ايتل مغرومة بالبحر، الذي كانت تراه في طريق عودتها من المدرسة. وكما كان حاضراً أيضاً في قصائدها، فهو يحضر في لوحاتها التي رسمتها في لبنان. وفي السنوات التي عادت فيها إلى لبنان من عام 1972 حتى عام 1975، رسمت لوحات كثيرة عن الجبال هناك، بخاصة جبل صنين.
«عندما أموت، سيخسر الكون صديقته المفضّلة» هكذا قالت لصديقتها وحبيبتها الفنانة سيمون فتال. فقد كانت ايتل صديقة الكون بكلماتها وألوانها. كانت تحب هذا الكون من خلال تلك اللوحات التي تعكس غموضاً ما كما تقول سيمون فتال التي كانت تدعوها لترسم في الاستديو الخاص بها في بيروت حيث كانت تعمل ايتل محرّرة في جريدة «الصفا». كانت ايتل تنهي لوحة زيتية في جلسة واحدة. هل هو الوقت؟ تتساءل سيمون. تعمل ايتل على لوحات صغيرة تستطيع السيطرة عليها وهي جالسة على كرسيها أمام طاولة الرسم. كانت ترسم اللحظة الآنية، لأن فعل الخلق لديها كان تلقائياً. اللون هو المحدد الأساسي للوحة كما كان يرسم نيكولا دو ستايل.
وزن العالم دائماً أخفّ في لوحاتها


يرى كثيرون التشابه بين أعمالها وأعمال دو ستايل. لكن ايتل تختار ألوانها بدقة وتقرر استخدامها، فتبدو على اللوحة كأنها طبقة واحدة على خلاف دو ستايل الذي يترك آثاراً لألوان كثيرة قبل أن يقرر اللون الذي سيستخدمه. لا ارتباك في أعمال ايتل، هي ألوان محددة كأنها قرارها الأخير. لقد وجدت أسلوبها الفني سريعاً وباستخدام سكّين تضع عليها ألواناً متقابلة، وعندما تضع تلك الألوان على الصفحة، فلا تراجع. فالسكين التي تستعملها لا تخطئ الضربة، تمرّ لوحتها هكذا أمام عين المشاهد كأنّها جملة واحدة موجزة عن لحظة محددة.
لا تحبّذ ايتل أن تصوّر الفن كأنه فضاء بعيد عن السياسة، لأنها تعتقد أنّ الفن سعادة والسعادة مقاومة، تقول عن فنها: «بالنسبة إليّ، حتى الأشكال الهندسية في لوحاتي سياسية. لأن الفن سياسي بالنسبة إلي، ولو أنه يقرر أن لا يكون ذلك». بدأت ايتل مشوارها الفني وهي في الرابعة والثلاثين، لكنها لم تكن تعرف أنها ستصبح فنانة مهمة. إذا كان الفن قد حدث لها متأخراً، فقد عرفت شهرتها كفنانة أيضاً متأخرة.
في عام 2010، بدأت «غاليري صفير زملر» بعرض أعمالها في بيروت وهامبورغ، وكان ذلك حدثاً فاصلاً ومهماً في رحلة ايتل الفنية. بعد ذلك بسنتين، اختيرت ايتل كأحد وجوه النسخة الثالثة عشرة من «دوكومينتا»، أحد أعرق المعارض في عالم الفن المعاصر في ألمانيا. عرضت يومها عشرات الأعمال واللوحات إلى جانب فنانين مكرّسين حول العالم. بدأت بعدها أعمالها تُعرض في أماكن كثيرة في العالم.
بالنسبة إلى ايتل، الفن شعر بصري خالص، يذهب الى أقاصي الروح ليستفزّها. لاحظت أنّ الفن العربي نادراً ما يأتي من جذوره الخاصة، فهو مترابط مع حركات الفن الغربي وخاصة الفنون الحديثة التي ظهرت في الآونة الأخيرة. ورغم تأثرها بكلي ونيكولا دو ستايل، إلا أنها تدرك أنها مختلفة فنياً عنهما.
هناك محطة مميزة أيضاً في حياة ايتل الفنية، فقد قامت بصنع كتب فنية من الكرتون المطويّ على شكل أوكورديون الذي يسمى «ليبيريللو»، التي استوحتها من الفن الياباني، كل مطوية هي عبارة عن رسوم تتلاقى حول رؤية أو موضوع ما، وتبرز فيها الأحرف أو الكلمات كأنها لوحات هيروغليفية. خطت داخلها بعض القصائد بالعربية على هذا الكتاب مصاحبة برسوماتها. تقول ايتل عدنان عن هذه الأعمال إنّها «سينمائية»، يستطيع من يشاهدها أن يقرأها صورة وراء صورة، إذ اكتشفت أن الرسم كالكتابة تماماً. كانت تكتب وترسم داخل الكتاب بالحبر الأسود، وأحياناً بالألوان الأخرى. تكتب الفنانة سيمون فتال في مقالة عام 2002 عن هذه الـ «ليبيريللو» أنّ «كلماتها ترى مرتين بعين عدنان، مرّة كصورة ومرّة كنصّ». كانت تشتاق للعالم العربي ولبيروت، فتضع في هذه الكتب الفنية مقاطع لشعراء عرب معاصرين وتكتب القصائد بخط يدها. أضافت في ما بعد قصائد لشعراء أميركيين وفرنسيين. هذه الوسائط لم تكن فقط أنطولوجيا، بل إبحاراً نحو الزمن لنراه يتحرك، فنرى الطبيعة أيضاً تتحرك في الرسومات مع الكلمات المخطوطة بيدها. تشكل هذه الوسائط الفنية إضافة فنية لعالم ايتل عدنان الفني، لأنها تتعامل فيها مع الكتابة كجزء من التجربة التشكيلية. ولا ننسَ أيضاً تصميماتها المهمة في عالم الصوف والسيراميك.
لفنّها القوة على النفاذ إلى أعماقنا كما شعرها تماماً، فهو يحاور فينا لغز الفن رغم انتمائه إلى قضاياه الإنسانية والسياسية، وهي التي لا تهمل في أعمالها الشعرية والفنية الأسلوب الفني المتناغم مع روحها وتجربتها. وهذا ما يجعل وزن العالم دائماً أخفّ في لوحاتها.