إذا كان الإنسان عنده ماضٍ أكثر من المستقبل، فلماذا تكتسب ذكريات الماضي دقّة مخيفة؟ أكثر فأكثر، أرى طفولتي وسنوات مراهقتي الأولى تظهر أمامي مراراً كما لو كانت شخصاً – مختلفاً في كل مرة- يوقفني في الشارع، يستجديني بأمر ما لا أفهمه، ومن ثم يختفي ليس وراء زاوية ولكن في الضباب، في النسيان. هذا الشخص ربما كان منبعثاً من تلقاء نفسه (أو بالأحرى عائداً من وقت إلى آخر)، يطرح أسئلة، يطالب بالحساب، يسأل عن الإصغاء الذي لم يحصل عليه أبداً، متطلعاً أبداً إلى ما تشتاقه النفس من البدء ولم يتحقق أبداً. نحن مسكونون بهذه الأشباح ومطاردون عملياً منها، محجوزون بالذكريات التي لا ننجح بالتخلّي عنها لأنّ شيئاً فينا يعرف أن موتها سيكون موتنا. هذا وإذا كان بالإمكان أن تموت: ربما هي حظيت بحياة من دوننا، وإلى هناك لن نذهب أبداً.
«الجبل، لبنان» عمل مشترك لإيتل عدنان وسيمون فتال (زيت على كانفاس - 54×64 سنتم - 1973/ بيروت)

في الحقيقة كنت ولداً وحيداً، لا إخوة لي ولا أخوات، وكان لأبي من زواج سابق ثلاثة أولاد- ولقد تخلّى عنهم بطرق شتى، وهم كانوا يعيشون في بلد آخر. ما كان عندي أولاد أعمام ولا أخوال من عمري. هذا الوضع لم يجعلني فتاة تعيسة بصورة خاصة، ولكنه دفعني، بكل تأكيد، إلى أن أفتش عن أصحابٍ أقدر أن أشاركهم لعبي، مشاعري، أفكاري وألعابي. وُلدت ونشأت في لبنان، بين أطفال من عائلات متشعّبة – عائلات بدت لي إلى ما لا نهاية، أنا كنت أبداً الصغيرة الغريبة التي كانت عائلتها تبدو هزيلة بالنسبة إلى كل الآخرين. وحتى الآن، الصداقة تبدو لي عجائبيّة، قبل كل شيء، متقلّبة.
بيروت، أيام طفولتي كانت مدينة حديقة وضواحي صغيرة، شوارع هادئة، وحياة بسيطة. مدرستي كانت تبعد شارعاً صغيراً عن بيتنا؛ كانت تديرها راهبات فرنسيّات ألّفن فرعهن من المدرسة الجانسينية الكاثوليكية مع التعالي الاستعماري وأعطتنا نوعاً من التربية الغريبة- متقيّدة بحرفية الكتب التي كانت غريبة تماماً عن محيطنا- ما خلق فينا عزلة عن تقاليدنا وأيضاً عن حاجتنا الداخلية إلى عالم سعيد. في هكذا مدارس، كانت رؤية العالم ضيّقة للغاية، يهيمن عليها أب غير منظور كان يوزّع العقاب أكثر من الجوائز للبنات الصغيرات اللواتي كن يتكلّمن عن خطايا ليس باستطاعتهن اقترافها، وكنّ ينتظرن أن تأتي فسحة الراحة كما ينتظر الرفاق في السجون الخفيفة العقوبة على الأرض.
بيتي كان وحيداً، مكاناً محبوباً. كنت أعي أن أمي جميلة فوق العادة وأن أبي كان يكبرها بكثير؛ وكانت دائماً تؤكّد أن هذه المعلومة كانت معروفة. حياتي العاطفية كانت واضحة: كنت أحبّ أهلي الاثنين وهذا كان كل شيء.
ولكن هذا كان بعيداً كل البعد من أن يكون كل شيء. قلبي كان مفعماً بالمشاعر. مشاعر لأي شيء؟ لا أظن أنّ أمراً ما كان واضحاً لديّ في طفولتي. قلبي كان ينبض، أجل، وعقلي كان مشغولاً، السباحة في البحر كانت خبرة سعيدة، يوماً بعد يوم في الصيف، في المرّات التي لم تكن فيها الراهبات من حولنا.
اللعب مع رفاق الصف كان هو المكافأة العاطفية الأعلى درجة: الركض في باحة الملعب، التحدّث طويلاً في الطريق إلى البيت حوالى الساعة الرابعة، أجرجر خطواتي، أمضغ الوقت، وأصل بعد ثلاثين دقيقة من الموعد المنتظر. كانت هذه محاولة مني لأستجلب النظر. وكنت أنجح في ذلك كثيراً من الأحيان. وبما أن الأطفال عليهم أن يختاروا صديقة مفضّلة، كنت أشكل غالباً ثنائياً مع رفيقة الصف الصغيرة السنّ مثلي، أنيسة شاكر. أتذكر وجهها ومظهرها، كما لو كنت رأيتها منذ بضعة أسابيع. كانت عيناها خضراوين زرقاوين، وشعرها أسود أجعد كثيراً، جلدها على شحوب، وعظام خدودها عاليات. كانت تسكن على بعد بضع بنايات في منتصف الطريق بين بيتي وشاطئ البحر. كانت أمها قد توفيت، وكانت هي تعيش مع أبيها وإخوتها الأكبر سناً منها. أمي كانت تحبها؛ أظن أنها كانت مطمئنة لأنها كانت تأتي من «عائلة كريمة». وهكذا كنت بانتظام – وكدت أقول باحترام وبفخر- أُرسَل إلى اللعب مع أنيسة في بيتها التراثي الجميل، الذي كان مبنياً من حجر، مع قناطر وشرفة. هذا بدأ على ما أظن لما كنت في السابعة، ودام سنوات. (في الواقع ، بقيت على صداقتها حتى آخر مراهقتي، حيث وقع في حبي أصغر إخوتها، وصار صديقي الملحاح، كان يأخذني إلى سباق الخيل وإلى مشاهدة لعبة غريبة هي صيد الحمام، حيث كنا نراهن على الولد الذي يُنزل حمامة بطلقة واحدة. رويداً رويداً فقدت أخباره، ومن ثم أخبارها بعد أن ذهبتُ إلى باريس لأكمل دراستي).
في الصف، كنا نجلس على مقاعد، كل واحد أمامه طبقة كانت تُفتح عمودياً، وفي الطبقة كان بإمكاننا أن نترك كتبنا ودفاترنا. وللجهة اليمنى في الطبقة كانت توجد محبرة. الراهبة-المعلمة كانت تحدّد لنا مقاعدنا. وصدف – ربما كان عمري تسع سنوات- أنه كان مقعدي إلى جانب فتاة اسمها هيلين.
أحببت هيلين منذ اليوم الأول حين قعدنا جنباً إلى جنب. كانت هادئة، هدوءاً ملحوظاً. أنا كنت طفلة لا تعرف الراحة واجتماعية، فخورة بتحريك الأمور، محطّ إعجاب معلميّ لنجاحاتي في الدراسة وكانوا حذرين مني لأنه كان ينقصني الانتظام.
لا أظن أنه استغرقني وقت طويل لكي أنتبه بأن هيلين كانت تختلف عن كل الأولاد. تدريجياً، كنت أدرك شعوريّاً أن هناك فرقاً بنظري (أو بالأحرى بقلبي) بين أنيسيا وهيلين. أنيسيا بقيت صديقتي، مع ما ينتج عن الصداقة من مشاعر مريحة، وكل الحرية التي تحملها. كنت أود أن أركض معها في باحة المدرسة وآكل الحلوى في بيتها، نتحدث، نضحك ونمضي ساعات في حديقتها. ولكنني مع هيلين لأول مرة في حياتي شعرت بالحياء، بالخجل، مرتبكة أمام طفلة أخرى، وكنت أدرك هذا وما كنت أستطيع أن أتدبر أمري. كنت جدّية للغاية معها، شديدة الانتباه، كنت فخورة أيّما افتخار أن أمشي معها حتى نبلغ شارعها، سعيدة بالاعتزاز بدعوتها لي إلى بيتها، وكان لديها أخت وأخ أكبر منها. كل شيء يختصّ بها كان عندي بمثابة أهم الاهتمامات والألق. لماذا كان بيتها كبيراً وصامتاً وجديّاً؟ كان هذا يؤثر فيّ إلى أبعد حدّ.
ودام هذا الوضع سنتين. كنت «أحب» هيلين بشكل آخر عن كل من أحببت. أكاد أقول كما في السينما، ليس تماماً، ولكنه أيضاً ليس مختلفاً. بسببها، دخلت هذا الحيّز الذي يختبره الشباب، النصف- نكران والنصف -حقيقة بشأن ذواتهم وبما يتعلّق بمشاعرهم، وبقيت هكذا مدة طالت، العشرينيات من عمري، ومن خلال عشّاق آخرين. هي مأساة، بسبب الحاسّة السادسة التي نشعر من خلالها ما هو منتظر وما لا ينتظر منا وما يمكن اعتباره مخزياً. لماذا وكيف، نعرفه، أنا لا أعرف تماماً، ولكنه يأتي باكراً في الحياة، وعند بعض الأشخاص لا يعرف حلاً.
اكتشفت في قلبي أن ثمة مكاناً سكنت فيه هيلين، حيث كنت أكلّمها، وحيث كنت ألاحظ جمالها الخارق. كان ذلك حقيقياً، ليس مجرّد خيال. كانت تملك عينين ما رأيت أجمل منهما في حياتي كلّها. وبعد وقت، انتبهت إلى أنهما تشبهان عينَي «جاربو». كانت تبدو ناعسة بعض الشيء لما كانت تنظر إليّ (وإلى كل الأشياء). ما كانت عيناها زرقاوين ولكن كانتا عسليتين داكنتين، وكانتا تبدوان فاتحتين عندما تضربهما الشمس؛ ريف أجفانها كان يرسم ظلاً كبيراً عليهما، ينحني حتى أسفل خديها.
كنت خرساء في غالب الأحيان بوجودها، تماماً كما كنت أشعر بعد عشر سنوات أو 12 سنة عندما وقعت في حب امرأة- لا أقول أعمق، ولكن بوضوح أكبر وبعنف أكثر- كنت التقيتها في باريس في أيام دراستي.
بيروت في الثلاثينيات كانت هي ذاتها مدينة على عتبة المراهقة: جديداً توّجت عاصمة لبلد منحوت من قبل حلفاء سوريا. كان عطرها من الياسمين وزهر الليمون، وكنت ترى البحر من أغلب الشوارع. كنت قد أحببتها كطفلة، شعرت بجمالها وكنت ألتذّ بالاتصال بها كذهابي مع أبي إلى السوق أو هرولتي عبر الشارع إلى أماكن السباحة. وكان الاختبار الأكثر إثارة آنذاك حضور فيلم .آه، الأفلام، أيّما حب، أيّما هيام بالمستحيل! كانت دور السينما في المدينة قليلة والأولاد كانوا من المفروض أن لا يتردّدوا إليها، ولكن أمي كانت (فهمت ذلك من بعد) على علاقة بشاب وكانت تذهب إلى السينما وتأخذني معها، عادة في السهرة وفي الشتاء.
كنت أعبّئ رأسي من الأشعة السوداء والبيضاء على الشاشة وأشاهد أناساً بالغين جميلين يقترب بعضُهم من بعض لأجل خلق جو من الميوعة أسمّيه حباً. باكراً، كوّنت السينما إحساسي (أكان جيداً أم قبيحاً)، ونجوم السينما أصبحوا نماذج رغبتي. نساء ورجالاً كانوا متساوين في الجاذبية، متساوين ساحرين، ولقد كانت «جاربو» تلامسهم كلهم.
بيروت في الثلاثينيات كانت هي ذاتها مدينة على عتبة المراهقة


في ملعب المدرسة، كنت أروي للأولاد الذين يتحلّقون حولي، ما رأيته. ذات يوم، ضبطتني راهبة شمطاء، وأنا أؤدي رقصة- على ما أظن مازوركا لجاربو- لتفسير المشهد. فحرمتني من العطلة خلال أسبوعين، لكن كل هذا زاد في انبهاري بالنوعية الإباحية التي للصور السينمائية بالأسود والأبيض، إلى حدّ أنني بعد عقود عدّة ما زلت أجد فيها شيئاً من تلك النوعية التي لا تموت حتى في صور تافهة للشجر أو الأزهار لأنسل آدمز.
والذي أضاف الأمر سحراً أن صالة للسينما قد دشّنت بمقاعدها المخمل الأحمر براديها الهائلتين، وكانت «الـروكسي» من أجمل الصالات، وأكثرها أهمية، في المدينة، وكان يملكها عم صديقتي هيلين الصغيرة! وهكذا كان، من سنّ الحادية عشرة ومن بعد، كانت «الـروكسي» مرتبطة بصورة هيلين، حتى لو لم أكن أراها في ما بعد. الزيارات إلى «الـروكسي» كانت تكتسب أهمية أكثر لأن ذلك العمّ كان يشاع أنه سكن أميركا (وهذا الأمر الوحيد المرتبط بالسينما)، وعاد ليزيد المدينة صالةً جديدةً لأحلامها. كانت هذه الصالة حيث شاهدت «بلود أند ساند»، «ذي سكارلت أمبرس»، «آنا كارنينا» وبعد زمن، «ذي بير فوت كونتيسّا». وبعد وبعد.....الخجل والاحترام التي كانت تولّده فيّ هيلين، كان يقترب من الممثلين، كان حضورهم جدّياً في قلبي وعقلي ولكن نادراً ما كانوا حاضرين في يومياتي.
حدث أمر ما، ما كنت لأتذكره، ولكن كنت غاضبة عليها بسبب أمر ما – أو لا شيء، وهذا كان بيت القصيد – وكنت لا أتكلّم معها بالرغم من أننا كنّا نجلس على المقعد ذاته. كنت أشعر بخليط من الحزن وشعور آخر لم أكن أعرف أن أحدّده، وقتئذٍ كنت أنكمش على ذاتي عندما كان الأمر يتعلّق بها، وما كنت أستطيع أن أخرج من هذا الجو الذي يمتلكني. حزني كان يبدو واضحاً لأن واحدة من بين المعلمات، شابة صبيّة، أتت إليّ بعد الظهيرة حين انتهى الصف وأوقفت هيلين وهي خارجة. جمعتنا وقالت: «اقتربا يا صغيرتَيّ، عليكما أن تسوّيا أحوالكما». وقالت لي: «أعلم كم أنت تحبّينها، كفّي عن هذه التفاهة». أتذكّر أنني كنت أنتظر هكذا لحظة ولكن، كنت أتمنى أن أعرف بالتأكيد لماذا، لأن هذا الموقف أعاد نفسه لاحقاً مع آخرين، وكانت ردّة فعلي وكنت دائماً نادمة. رفضت أن أبوح واعترفت بأن الأمور لم تكن تجري حسناً وأن العاصفة الصغيرة، كلّها من أعمالي، قد ولّت. وهكذا رحت ألعب مع الأولاد من دون تلك التي كنت أشتاقها بأسى.
كان ذلك على الأغلب في السنة الثانية لعلاقتنا، بين الصداقة وشعور آخر كنّا صغيرتين لتحديد اسمه، ولكن كنّا نعي احترامه، والاضطراب، والحراك الذي يحدثه في أرواحنا. أنسب هذه المشاعر إلى هيلين لأنها حينها، ما كانت تتكلّم إلا معي دون الآخرين، ومعي كانت هادئة، بعيدة، حالمة أو راضية. بعد المصالحة المستحيلة (التي ندمت عليها)، ذهبت بحالها. ولكن ليس طويلاً. صادقت تلميذة جديرة بالاهتمام من رفاق صفّها. كنت أعرفها قليلاً، شعرها أحمر، عيناها زرقاوان روسيّة، كانت، عرفت ذلك من بعد، بنت أمير أذربيجاني منفيّ إلى موسكو حين قامت الثورة، وقدم لبنان طالباً اللجوء. تانيا ناهدشيفانسكي كان اسمها. كنت فضولية بالنسبة إلى شخصها وإلى الاسم، وعندما صارت وهيلين من أعزّ الأصحاب، كنت أنظر إليهما وأفكر كم تانيا محظوظة وأنني لا أستطيع أن أعيد بناء الحصريّة التي كنت عليها مع هيلين (أظن أن تانيا وأنا كنّا نتكلّم مع بعضنا لأن تانيا كانت طفلة معبّرة، واعية تأثيرها على الآخرين، وحضورها المميّز، وجاذبيتها الفريدة بين جماعتنا الصغيرة).
كان الولد في ذلك النظام الفرنسي التربوي أن يمرّ، عند عامه الحادي عشر، بامتحان «السرتيفيكا»، مؤشراً إلى أنه أنهى دروسه الابتدائية. الراهبات كنّ يعوّلن أهمية كبرى على هذا الامتحان في آخر السنة، لأن السقوط يعني ممنوع الترفّع إلى الصف الأعلى. وكان يلزم هذا الامتحان بطاقة وصورة ملصقة عليها كصورة الباسبور. كنّا عشرين في الصف وذهبنا كلّنا إلى المصوّر، وأعتقد أنني تكلّمت مع هيلين عندئذٍ. أعطينا كل واحدة منا صورتين أو ثلاث صور أكثر مما يلزم وبدأنا نتبادل الصور في ما بيننا، وأعطتني هيلين صورتها وأعطيتها أنا صورتي.
في بيتي، لم يكن عندي ما يخصّني، سوى درج حيث كنت أخزّن أقلامي، ممحاتي، مبراتي، وأظنّ بعض الدفاتر. وضعت صورة هيلين في زاوية، على كومة أغراض، وكلما كنت أفتح الدرج كنت أنظر اليها، أقرّبها من وجهي، وفي بعض الأحيان كنت أقبّلها بالكاد، وأضعها جانباً. ذات يوم وضعت عليها زهرة صغيرة، علقت بها غبار الطّلع مخلّفة بقعة صفراء صغيرة، وكنت مطمئنة لأنها لم تشوّه الوجه بل كانت في أعلى قرنة من الصورة.
تنقّلاتي، حياتي البدوية الجامعية، تقصيري في نقل أغراضي من مكان إلى مكان، وفي النهاية الحرب في لبنان، الذي أتت بعد سكني في كاليفورنيا... كل هذا أجبرني على التنازل عن الكثير من حياتي وانتهى بي الأمر مع وثائق قليلة من الماضي. حتى أكثر الأشياء القيّمة ضاعت، لكن تلك الصورة الصغيرة لهيلين كانت تطلّ عليّ من حين إلى آخر وأنا أخلط بعض أوراقي القديمة.
هيلين قالت لي إنها ستغير مدرستها وأيضاً تانيا كانت تفعل الشيء نفسه، وإنهما ستدخلان «الكوليج بروتستانت» المدرسة الوحيدة الفرنسية وغير الكاثوليكية في المدينة. كانت هذه المدرسة أغلى من كل المدارس الكاثوليكية. كان لها امتياز بحد ذاته، لأنها كانت تدار من قبل آنسة ويغمان، امرأة صلبة صارت مشهورة. طلابها كانوا من أغنى البنات، وأجملهن وأذكاهن. كان ثمة شيء متميّز بشأن هذه المدرسة، وفي أوساط الكاثوليك. كانت تسمع همسات بأنه لا يستحسن من الناحية الدينية أن تدخل هذه المدرسة. رجعت إلى البيت، وقلت لوالدتي إنني أريد أن أغيّر المدرسة. ردة فعلها كانت سريعة: «إنهم لا يؤمنون بالله هناك». مع أنها إغريقية، مولودة في سميرنا ومنفية إلى بيروت، لا بدّ من أنّها سمعت هذه الإشاعة وصدّقتها. ما كان لي الحظ أن أدخل هذه المدرسة. عرفت أنني خسرت رفقة هيلين. كنت أفكر بها دوماً، في حيّز هذا الذهن حيث الأفكار، الأفكار التي هي شعور، أيضاً، تتهادى على الدوام من دون وزن، كأنها غيمة محزنة، غشاء خفيف، كأنه مألوف ويأخذ سنينَ ليختفي، إذا اختفى.
سنة أو بعد سنة، يجب أن أكون بلغت الثانية عشرة أو الثالثة عشرة من عمري. كنت أقود دراجة هوائية على الكورنيش، الطريق المحاذي للبحر والذي كان على بضع خطوات من بيتي، وقد كانت أمي قد سمحت لي بأن أتعلّم قيادة الدراجة الهوائية، وكان على مقربة من عندنا، محل حيث بإمكانك أن تستأجر بمقابل قليل من القروش واحدةً من هؤلاء الماكينات الصغيرة والأنيقة. قلّة من الناس كانوا يستأجرونها للّذة وكان أغلبهم من الصبية. ولكن ذات يوم من بعد الظهر، صادفت هيلين وتانيا. كانتا تركبان دراجة هوائية على الكورنيش وحيّتاني من بعيد. تفاجأت بهما وكدت أصطدم بسيارة مارة، تعرّجت ثم وقعت. السيارة وقفت، السائق تأكّد بأنّني لم أصب بأذى، وأنا لمّا وقفت عدت إلى دراجتي، والبنتان صارتا بعيدتين، توجهت إلى الاتجاه المعاكس، أعدت دراجتي وعدت إلى بيتي.
مضى الوقت، بما فيه الحرب العالمية الثانية، السنوات الجامعية الأولى، ودراستي في باريس، باركلي وهارفرد، وسكنت في كاليفورنيا، التي أحببتها وما زلت أسمّيها وطني، ولكن قبل بداية الحرب الأهلية اللبنانية، رجعت وقتاً قصيراً إلى بيروت. (حيث أجبرني القتال إلى العودة إلى أميركا).
في بيروت، كان مقهى صغير معروف بالـ «هورس شو»، روّاده من فناني المدينة وصحافيّيها. بالقرب منه، اكتشفت أنّ محلاً لبيع ملابس أنيقة فُتح أثناء غيابي الطويل، كان المحل لأخت هيلين، ماري، وأنا كنت متأثرة لأني وقعت على أثر لهيلين. (ماري كان اسمها أميركياً لأن عائلتها هاجرت إلى الولايات المتحدة وعادت العائلة إلى لبنان بعدما وُلد الأطفال). وهنا ما يفسّر لماذا كان هناك أمر ما مميّز عند هاتين البنتين اللتين دخلتا المدرسة معي.
ذات يوم، رأيت هيلين من خلف زجاج الواجهة. دخلت المحل وقلت «هالو» إلى صديقتي القديمة. لم تظهر عليها المفاجأة، ولكن ابتسامة هزيلة وإشعاع نور مرّ في عينيها الجميلتين دائماً شجّعاني على أن أقول بضع كلمات. علمت أنها تزوجت ولها ولدان. كان هذا كل ما لديها أن تقول. «ماذا تفعلين الآن؟» سألتها.
كان الطقس صيفاً وأجابت أنها ستذهب إلى البحر. «لماذا لا ترافقينني؟»، وأنا ظننت أنني سأذهب. ولكنّي عدلت. ولاحظت أنها شاحبة بقدر ما كانت شاحبة وهي صغيرة، وساهية. لو كنت لقيتها لأول مرّة، لكنت وجدتها حبّوبة، جذّابة، ونمط الناس الذين كنت أودّ أن أعرفهم، في طريقة هادئة. كان الأمر كما لم يقع بعدُ وكنّا طفلتين، خجولتين، بريئتين، أمامهما مساحات غير مضبوطة، غير قلقتين، لا معرفة من أي نوع، من غير ماضٍ ولا فكرة عن المستقبل. مخلوقتان صغيرتان سعيدتان، إحداهما بالأخرى ولا تعيان أنهما سعيدتان.
لا لم أذهب إلى البحر. أنا لا أريد أن أعرف إن كنت على حق أو على خطأ. في مجرى حياتي تأملت بالحبّ مراراً وتكراراً وأنا لا أزال أفكر: الحب هو الأمر الأهم الذي نتعاطاه، وهو دائماً الأصعب. يأتي كموجة لامتناهية القوة تخلق الخوف من الغرق، يقمع الذكاء، يشلّ إرادتنا، ويبدو بلا أمل منذ البداية. على الأقل، هكذا يُهيّأ لأغلبية الناس وأنا اختبرته دوماً هكذا.
هو يقفز فوق طرق العقل، هو جنون بجوهره، ويبدو أنه ينبع من منطقة داخلية للذهن – أو من النفس – حيث يسكن الهلع. يخلق حاجة يائسة، الحاجة لتوقيف في الزمن والمكان والشخص المحبوب، إنه معاملة في المطلق. إنه ينتهي بمأساة لأنه في جوهره حرارة، لهب، قوّة تتحرّك بدون رقيب تأتي كانحراف إلى سلوكنا. لهذا السبب، كل واحد يقتل حبّه، بفضل الخوف: نخسر المعركة لأننا نخاف أن نخسرها، نفضّل أن نموت على أن نتعذّب، إننا محكومون ولكننا على خطأ.
* مقطع من نصّ «الغرام الأوّل» لإيتل عدنان ـــــ ترجمة: أمل ديبو