أما وقد بدأ «العرس الديموقراطي السوري» بحفل صاخب على الأراضي اللبنانية الشقيقة، فلنجهز أنفسنا إذاً لموشحات إعلامية طويلة يُتقنها الإعلام اللبناني جيداً. ولأنّ الإعلام الشقيق «حرّ وديموقراطي»، لا يؤمن بـ«الصنم الواحد»، ولا المايسترو الواحد، فمن الطبيعي أن تتداخل الجوقات، مخلفةً ضجيجاً لا ناظم إيقاعيّاً له. الموشحات بدأت بالفعل، ولا يُتوقع لها أن تنتهي قبل أن يستجدّ حدث منافس «جَلل»، يستقطب الهرولة الإعلامية، وخصوصاً التلفزيونية، فينضم حفل أوّل من أمس إلى قائمة طويلة من الأحداث المصفوفة بعناية على رف مهمل في «متحف العراقة الإعلامية».
لا جديد في قولنا ان لا جديد في أداء الإعلام اللبناني، لا في الشأن السوري فحسب، بل في كلّ المواضيع الأخرى. في بلد استبدل الصنم الواحد بالعشرات، يغدو التسليم بأنّ الإعلام أداة في أيدي الساسة المتنازعين، أمر بديهي. يتحوّل الجمهور إلى شاهد على تحوّل هذه الأداة من عصا ترهيب، إلى باقة زهور ترغيبية، وفق ما تقتضي بوصلة الفرقاء السياسيين. حفاظاً على هذه «الثوابت»، قرّر فريق إعلامي «حُر» أن يُسدد كرة «النازحين السوريين» مُجدداً، على وقع حجم المشاركة المفاجئة لهؤلاء في انتخابات الرئاسة السورية. الكرة نفسها سبق أن تم تقاذفها في مباراة لانهائية، أقصى مراميها تسجيل الأهداف السياسية في وجه الخصوم. وغايتها «الأسمى» طرد «الغرباء» من ظلّ الأرز اللبناني. مرّةً لأنّهم «سرقوا فرص العمل من أصحاب الأرض»، وأخرى لأنّهم «قنبلة موبوءة»، وثالثة لأنّهم «قنبلة موقوتة».
أوّل من أمس، مرّرت mtv الكرة للـ lbci، لتتلقفها «المستقبل»، فترسلها إلى صحيفة «النهار». هكذا، خرج الجميع بشبه إجماع على أنّ هؤلاء «ليسوا نازحين»، وفي وسعهم العودة إلى بلادهم، ما داموا قادرينَ على الوصول إلى السفارة، واقتراف «جريمة التصويت». قامت قيامة أعداء النظام السوري، وتوحّد لسان حالهم بما مفاده: «أيّ نازحين هم هؤلاء؟». النازحون كما اعتاد البازار الإعلامي تصويرهم هم دائماً «موبوءون، يفتك الجهل بهم، وهم عبءٌ على الاقتصاد اللبناني...». كيف لهؤلاء إذاً أن يليق بهم فعل «ديموقراطي»؟!

أظهرت صحيفة «النهار» كيف أنّ «الأمهات السوريات متخلفات قياساً إلى نظيراتهنّ اللبنانيات»

ثمة سؤال جدير بالطرح: هل حقاً فوجئ أفراد الجوقة بحجم الإقبال على الاقتراع؟ وإذا كانت المفاجأة حقيقة واقعة، فمن المسؤول عنها؟ أليست الجوقة نفسها التي ما برحت تؤكد أنّ كلّ نازح هو معارض بالضرورة، وأنّ حجم النزوح ليس سوى مؤشر على فقدان النظام السوري شرعيته؟ ألم تُبشّر هذه الجوقة النازحين أنفسهم بأنّ «رحيل النظام مسألة وقت»؟ ثمّ ما الذي سيكون عليه أداء الوسائل الإعلامية عينها، إذا طالعنا الغد القريب بتحرّك «نازح» معاكس؟ ماذا لو نُظّمت على الأرض الشقيقة تظاهرات مناوئة للانتخابات تزامناً مع إجرائها في الداخل السوري؟ البديهي أنّنا سنجد الجوقة تتسابق في أداء معزوفة جديدة: «هؤلاء هم النازحون الحقيقيون».
يفرض التعاطي الواقعي علينا ألّا نبالغَ بمطالبة وسائل الإعلام بأداء مهني يخفف من ثقل التبعية السياسية، فهذه مسألة تعجيزية. لكنّنا نسمح لأنفسنا، ومن باب «طلب المستطاع» أن ننصح بـ«نهج» واضح، وتوصيف ثابت (وإن لم يكن دقيقاً) لحال النازحين السوريين. هذا أضعف «الإيمان الاحترافي»، وأبعد عن الشيزوفرينيا (أنتم أكبر قدراً). قوموا بذلك، واتركوا لنا فرصة لفهم حال النازحين السوريين من خلالكم، نحن القراء والمشاهدين الذين نعتمد على «الإعلام الرشيد» لتكوين وجهات نظرنا. دعونا نقرّر مستنيرين بعمق رؤيتكم، وحصافة توصيفاتكم.
هنا، لا بد من التوقّف عند أداء صحيفة «النهار» الذي كان لافتاً في ما يتعلّق بهذا الموضوع. الصحيفة العريقة لم تسمح لقعقعة الحدث «الديموقراطي» بأن تحجب عنها حقيقة أنّ «مجتمع النزوح السوري يسير من سيئ إلى أسوأ» وسط واقع «يهدد بالانفجار مع بداية فصل الصيف، حيث ارتفاع الحرارة والنقص الكبير في المياه النظيفة» (مقال بعنوان «محليات الأوضاع الصحّية للاجئين السوريّين من سيئ إلى أسوأ: سِلّ وجَرَب وليشمانيا وحصبة وريقان وسحايا وشلل»، عدد 29/5/2014). أوضحت الصحيفة اللبنانية الثمانينية أنّ هذا الواقع «ساهم إلى حد بعيد في انتشار الأمراض في مخيمات اللجوء الموجودة بكثافة في خراج مختلف البلدات والقرى العكارية». «النهار» استعانت أيضاً بـ«عرض لبحث علمي في ندوة عقدت في «مستشفى سيدة السلام» في القبيات عن «تأثير النزوح السوري على أقسام التوليد وحديثي الولادة في محافظة عكار». وكانت خلاصاته أنّ 65 في المئة من الأمهات السوريات يتميزن بـ«معدل عمر أصغر ومستوى تعليمي أقل بكثير من اللبنانيات، والاثنان أقل من المعدل الوطني (مستوى جامعي 3 في المئة عند السوريات مقابل 14 في المئة عند اللبنانيات، علماً بأنّ المستوى الوطني هو 51 في المئة)».
هنا، نصل إلى رسالة بين السطور، لا يحتاج استخلاصها إلى جهد كبير هو أنّ «الأمهات السوريات متخلفات قياساً الى نظيراتهن اللبنانيات». ربما فات واضعي المقارنة أنّه لا يجوز مقارنة «مجتمع النزوح» بمجتمع يعيش في ظرف طبيعي. معظم الذين يعيشون في المخيمات جاؤوا أساساً من بيئات موجودة في معظم مجتمعات المنطقة. المقارنة المُثلى يجب أن تُعقد بينهم وبين آخرين عاشوا ظروفاً استثنائية مماثلة، من شأنها أن تترك أثراً ولو جاء المنكوبون من سويسرا.