تتشعّب الأسئلة والطروحات التي يقدمها «الفصل السابع» (إخراج محمد عيتاني ـ إنتاج «ورشة»). لا تقتصر الأسئلة على طرح مفاهيم الرحيل، والبحث عن الهُوية، من منطلق وجودي فحسب. بل إنّه يسرد أيضاً تاريخ التطور البشري، عبر الكتابة المسرحية، من العصر الإغريقي، مروراً بالعبث الذي تطور بعد نهاية الحربين العالميتين، وصولاً إلى يومنا هذا. يستحضر العرض العلاقة التي تجمع أبطال النصوص المسرحية بكتّابها، في محاولة لكشف الأنماط التي تسبّبت في اضطراب البشرية منذ الخلق. العرض الذي يعرَّف بأنه «عمل مسرحي، جسماني، انغماسي، مؤدى باللهجة اللبنانية»، يستند إلى أكثر من ٢٠ مسرحية عالمية، وينطلق على خشبة «مسرح المدينة» مساء اليوم بمشاركة 21 مؤدياً مسرحياً.
مشهد من «الفصل السابع»

في العنوان الفرعي للـ «الفصل السابع»، يُطلق مصطلح EXODOI، المشتقّ من أصل يوناني، ويعني مشهد النهايات في المسرحيات المأساوية. في «الفصل السابع»، يُستخدم هذا المفهوم، بهدف خداع الجمهور بأن العرض الأدائي قد انتهى، مع مغادرة كل «كاراكتير». لكن سرعان ما تولد شخصية جديدة، يؤديها ممثل جديد. يأتي ذلك في نطاق فنّي متفاوت العناصر، يجمع التعبير الجسماني، ودراما الصوت البشري، وفنّ الأقنعة، والوسائط السمعية الموسيقية، ليرسّخ هالة أبطال المسرحيات العالمية، كـ «ميديا» للكاتب الإغريقي يوربيدس، و«الليدي ماكبث»، و«الملك لير» لشكسبير، وشخصيات فيكتور أوغو وغيرهم. ما هي علاقة الكاتب المسرحي بالشخصيات التي خلقها؟ ولماذا تماهى الجمهور مع هذه الشخصيات التي قُدّمت على أنّها أيقونية؟ يكسر أحد المؤدّين الإيهام، ليكشف أمام الجمهور مفاتيح اللعبة المسرحية، والهدف من العمل المسرحي، الذي يتطلع إلى تعرية الديكتاتوريات، وسلطات الأنظمة القمعية، التي تحكّمت بالشعوب على مدى قرون، ما يسمح للجمهور بتأمّل واقعه، ويحفّزه على التفكير بالأسئلة الوجودية الكبيرة من منطلق نقدي. لا يكتفي العمل عند هذا الحد، بل يبحث عن المعنى والدين، ويتناول موضوعات ملحّة مثل الاغتصاب والاضطراب العقلي، ويتجاوز الممثلون حدود الجندرية في تمثيل الأدوار على المسرح.
يستحضر العرض العلاقة التي تجمع أبطال النصوص المسرحية بكتّابها


كل هذه المحاور يتم تشكيلها في حركات جسمانية وأدائية ولغوية، تستند إلى النصوص الميثولوجية. في مشهد الافتتاح، تتراءى للمتفرج صورة ولادة الإنسان. وعلى المقلب الآخر من مخيّلته، تتراءى صورة الخالق الذي استوى على العرش في يومه السابع، بعدما بدأ الخلق بالنشوء شيئاً فشيئاً واستولى على عرش السلطة. يأخذ المؤدون وضعية الجنين، وتستكمل التشكيلات الحركية الموحّدة من الباليه الكلاسيكي، ليدعّم مخرج العمل النظرية الكلاسيكية في المسرح والفن. بناء التشكيلات الجسدية يأتي في إطار انسيابي، يخلق جمالية فنية إبداعية، على مستوى حركة المؤدين وانضباطهم، والتزامهم بما يحملونه في داخلهم. لكن لن يبقى العرض على ما هو عليه، إذ يسيطر ثقل الأفكار وكثافتها، وزحمة الممثلين، طوال مدة العرض (90.د)، ما يجعله غير مترابط، ومشتتاً، ومبعثراً، في بعض الأحيان، خصوصاً على مستوى الدراماتورجيا، إذ إن المضمون الكثيف والعميق، لا يتلاقى مع الشكل الفني والأداء التمثيلي.
تُذكر مثلاً جمل نصيّة من قبيل «شايفة هيدي النجمة، بتشبه عيونك»، «أول مرة مسكت فيها إيديك كانت ناعمة»، «البشر بيملكوا السلطة»، وتقدم في قالب تمثيلي تسيطر عليه الكليشيهات المرافقة لهذه اللغة. تأتي الانفعالات والصراخ والتنهّدات مفرطة. يقدَّم كل هذا، في إطار بعيد عن واقع التجربة الإنسانية. نستحضر هنا مفهوم اللغة «التي يجب أن تكون أداة للفعل والعمل والتعبير عما نفكر به. وفي حال ارتباط اللغة بالفعل، فإنها تصبح نشاطاً إنسانياً» وفق الفيلسوف الألماني لودفيغ فتغنشتاين.
يغيب الاحتراف على المستوى الجسماني. فالمؤدّون بمجملهم غير محترفين على مستوى تقنيات الجسد الأساسية. إلاَّ أن هذا النوع من العمل، الذي بدأ منذ سنة، مع مجموعة من الشباب في مدينة صيدا، لتعزيز دور المسرح وأهدافه، وتعزيز اللامركزية الثقافية، لا ضير بأن يكون على هذا الشكل، بخاصة أنه مع العرض، تتشكّل لوحات جسمانية للمؤدّين، تستحضر أمام ناظرك، لوحات من الفن التشكيلي العالمي، كلوحة ليوناردو دا فينشي «العشاء الأخير» التي يلوّنها الممثلون والراقصون بأجسادهم.
في الشكل أيضاً، يرتدي الممثلون أقنعة، مقتبسة من العصر الإغريقي. تستمد الأزياء ألوانها من طبيعة الجلد البشري، وهي تقنية مسرحية تُستخدم لعدم الدلالة على تجسيد الممثل لأي «كاراكتير» مسرحي، وتكون نقطة انطلاق، لأي شخصية سيؤديها على المسرح. باختصار يمكن القول بأن للسينوغرافيا المسرحية، جمالية فنية كبيرة، تتلاقى مع حضور الشخصيات المسرحية العالمية.
عندما نتأمل الأعمال المسرحية المحلية التي عُرضت أخيراً، من منظور المشروعات الفردية لكل فنان، نجد أنها متنوّعة ومتميزة وذاتية. كل منها يحمل معنى خاصاً. لكن أن تندرج مجمل الأعمال المسرحية، تحت عنوان «الممارسات الفنية المعاصرة والعروض الانغماسية»، فهناك علامة استفهام. إذ إن هذا النوع الفني، يتطلب تقنيات وأساليب محددة، منها كسر الإيهام، ليس بالصورة النمطية كإزالة الماكياج على المسرح، أو مخاطبة الجمهور، في شكل تمثيلي لا يحمل أي قيم دلالية ومعرفية. يبقى أنّ الطابع الديناميكي للمؤدّين، يسيطر على العمل، الذي كان بإمكانه أن يتطوّر أكثر. من المهم أن يصل هذا النوع الفني إلى هدفه، من أجل إيصال كل الأفكار التي يحملها على مستوى المضمون والتطلعات، ويصبح مجالاً لتأمل عقلاني نقدي، ويتحول إلى تحليل إيديولوجي. في «تخوم العالم السابع» للفنان الألماني توبياس ريبيرجر، يملأ إحدى غرف المعارض، بالبالونات الزجاجية، التي تتوهّج منها أضواء، تخفت، وتضيء، وتتوهّج ببطء شديد. تمثل هذه المشهدية الفنية بحسب ريبيرجر الإضاءة المنقولة عبر الإنترنت، من مختلف أنحاء العالم. تندرج هذه الأعمال ضمن ممارسة فنية، تدفع المفاهيم الإنسانية، إلى إنتاج أشياء مادية، أو سينوغرافية، يتم انتقاؤها لتلائم المفاهيم التي تعبّر عنها.

«الفصل السابع»: 19:30 مساء اليوم وغداً وبعده ــــ «مسرح المدينة» (الحمرا) ـ للاستعلام: 76/876603