كان التشكيلي اللبناني عارف الريس (1928-2005) متعدّداً في أساليبه، كأنّه أكثر من فنان. تنقّل بين البلاد، لكنه لم يتأثر بفن تلك الأماكن فقط، بل ترك اللّون يحكي روح الأمكنة التي زارها. ربّما غُيّب قليلاً عن المشهد العالمي، لكنه كان دوماً حاضراً في قلب المشهد الثقافي اللبناني من السّتينات إلى الثمانينات وحتى بعد رحيله. شكّلت أعماله في متناقضاتها وتفرّدها روح فنّان قلق ومنتمٍ للأزمات السياسية والثقافية التي تحيط به. كما قال الفنان الروسي كاندينسكي مرة بأن «الروح الداخلية للفنان هي التي تحدد الشكل»، هكذا تداخلت مراحل وأمكنة كثيرة في سيرة عارف الريس الفنية والحياتية، من مسقط رأسه في عاليه، حتى بيروت التي شهدت معرضه الأول بدعم من الصحافية أرليت ليفي. عاش بعدها بين باريس والسنغال، متأثراً بالطبيعة الأفريقية والأشكال الجديدة التي انتقلت معه إلى اللوحة. لم يهاجر من أجل الثراء، بل كان جزءاً من أولئك البشر الفطريّين الذين يعيشون على الصيد والبساطة. عودته إلى لبنان تُوِّجت بتأسيس استديو ومحترف «نسيج أوبوسون» مع الكندي روجيه كارون عام 1957.
كل مكان كان يحرّضه على حوار عميق مع الفن، ليخرج بأسلوب جديد يتخطى فيه نفسه ويحطّم أشكال فنه القديمة. في عام 1959، حصل على منحة للدراسة في إيطاليا حيث أمضى أربع سنوات بين فلورنسا وروما. وفي 1963، طلبت منه الحكومة اللبنانية إنتاج منحوتتين لتمثيل لبنان في المعرض العالمي في نيويورك. هكذا أمضى الريّس عامين في الولايات المتحدة، انغمس خلالهما في المشهد الفني هناك. عاد إلى لبنان عام 1967 وأصبح عضواً مؤسّساً في قسم الفنون في الجامعة اللبنانية. وفي السعودية أيضاً، دُعي الريس ليُنجز عدداً من المنحوتات لتجميل ساحة جدة وشواطئها، وأنتج هناك أكثر من 13 منحوتة ثم عاد إلى لبنان نهائياً عام 1992.
«5 حزيران ـ دم وحرية» (زيت على كانفاس ـ 149 × 200 سنتم ـ 1967)

اعتبره النّقاد «قطب الفن اللبناني الثاني» مقابل القطب الأول في ستينات القرن العشرين، بول غيراغوسيان (1926-1993). وإذا كانت لوحات غيراغوسيان تعكس القامات المتكرّرة لكن الثابتة في مكان واحد، فإنّ فن الريس يذهب إلى أماكن كثيرة، عاكساً شخصيته الفنية المزاجية. ومن هنا يلاحظ المطالع لأعمال الريس مظلة واسعة من الموضوعات السياسية والاجتماعية والثقافية والذاتية أيضاً. مع تنامي حركة التحرّر الوطني في العالم الثالث، رسم الريس مواضيع متكاملة تحت عنوان «رؤى من العالم الثالث» تناولت ثورات العالم الثالث والنضال الفلسطيني والصراع ضد الصهاينة. تساءل الريس عما يحدث وهو يراقب الحركة السياسية في لبنان، وأصدر بياناً سماه «مع من وضد من»، ممّا دفع السياسي والمفكر كمال جنبلاط إلى إصدار بيان سياسي مقابل بيان الريّس التشكيلي. وكان لاندلاع الحرب اللبنانية عام 1975 أثر مؤلم على الريس، فأصدر كتاباً عام 1976 بعنوان «طريق السلم» يحتوي على 22 لوحة تلخّص مجمل أحداث الرعب آنذاك. كسر الريس الحدود بين التعبيرية والتكعيبية، منتقلاً إلى التجريدية. في كل آونة، كان يعاود الابتداء كأنه يرجع إلى الصفر ليبدو هاوياً، لذلك ظل شاباً في الفن. كانت رسومه ذات خطوط متوترة ومتكسرة، وأحياناً مشدودة على أشخاص لوحاته. وكما قال مرة عنه الفنان جميل ملاعب، فإنّ لوحته هي «امتداد لجسده»، وكان في حالة صراع مع المرئي حيث بدأ فناناً انقلابياً منذ وجوده في المدرسة الابتدائية.
لوحات مستوحاة من حرب الاستقلال الجزائرية ونضالات «العالم الثالث» والحرب في لبنان


في المرحلة الأفريقية، سنشاهد نمطاً من تنوع تعبيري يُحاكي الطبيعة الأفريقية، حيث ظهرت معالجته اللونية بالاقتراب من الألوان الحارة. ربما كانت أفريقيا هي الموقع الذي حاول فيه التوليف بين حركة اللون وحركة الجسد، من دون أن تكون النتيجة مجرّد استنساخ للفن الأفريقي. الإقامة في أوروبا ورحلته إلى أميركا منحتا فنه بُعداً إنسانياً سيكون له مكانة خاصة في أعماله، وسيتعزز باهتمامات فلسفية. دخل مرحلة النحت، وبدأ بالحجر الأبيض ينحت أشكالاً تحاول أن تنطوي على ذاتها وتختبئ تحت جلدها. تظهر أعماله النحتية تجريباً عالياً يعكس مفاهيمه وفلسفته حول الوجود الإنساني. انتقل أيضاً إلى الكولاج، حيث استعمل الصور الفوتوغرافية للناس ساخراً من الأوضاع السياسية آنذاك.
يقول إدوار لحود عن عارف الريس في كتابه «الفن المعاصر في لبنان» (دار المشرق ـــ 1974): «لا نعرف ما يمكن قوله عن هذا الفنان، إنه عبارة عن كتلة متفجرة في كل الاتجاهات، إن فنه ذو علاقة بالمزاج، باللحظة، وبغريزته، وهو عبارة عن تمزق داخلي لا يُمكنه أن يتجسد إلا بسلسلة من التناقضات التي لا تنتهي». ومن هنا تكمن صعوبة تحديد مفهومه للفن، فتنقّله المستمر بين التيارات جاء كنتيجة طبيعية لتطور ذهني وثقافي فرضته الحياة الحديثة. لم يكن عارف الريس يؤمن بنظرية الفن للفن، ولم يجرب الفن للتجريد فحسب، بل كان يخضع لمشاغله الشخصية والعامة، الاجتماعية والسياسية على حد سواء، كما قال مرة عن فنه: «الحياة متكاملة عندي نظرياً وتطبيقياً، وفي هذا الالتزام معاناة تحرمني من التمتع المنفلت جمالياً من الموضوع».

«جدارية الاستقلال والطائف» (كولاج على خشب رقائقي ــ 89 × 211 سنتم ـ لبنان ـ 1992)

من هنا تحمل الوجوه التي يرسمها الريس قلق صاحبها ومزاجه الخاص، وتحمل الخلفيات أيضاً تعب العالم الذي يعيش فيه. لا يمكن الفصل بين فنه وما حدث في حياته، كأن الفن موقفه من كل ما يدور حوله. نشعر ونحن نشاهد أعماله أننا نتنقّل، الألوان تتغير، وتظهر شخصيات جديدة دوماً، لكن السؤال الحاضر بقوة هو سؤال الفن في عالم لا يكترث بالإنسان. لذلك لا نستطيع رؤية أعمال الريس بمعزل عن سيرته، حتى الأعمال التجريدية التي تبدو كأنها محطة هادئة في ألوانها، فإنها تختلف أيضاً في ألوانها وهندستها. نرى آثاراً ما من كلي وكاندينسكي وماتيس، حتى نشعر أن تجريبيتها هي تأكيد على أن فضاء الفن يتسع لكل الأسئلة والأساليب والمصائر.
تستعيد «غاليري صفير زملر» في بيروت الفنان اللبناني ضمن معرض«عارف الريس: لوحات، رسومات، منحوتات من 1948 حتى 2005»، إذ تقدم عرضاً كرونولوجياً للعديد من مراحل مسيرته المهمة تتضمن سنوات التدريب بين لبنان والسنغال، والأعمال التجريدية التي أنتجها في إيطاليا، ومجموعة اللوحات والأعمال الأكثر سياسية والمستوحاة من حرب الاستقلال الجزائرية ونضالات تحرير «العالم الثالث»، ونضالات الأميركيين الأفارقة والحرب في لبنان، ورسومات الصحاري التي أنتجها أثناء إقامته في السعودية، بالإضافة إلى مجموعة من أعمال الكولاج.
وكانت الغاليري قد بدأت بعرض إرث عارف الريس عام 2019، ولكن بسبب الوباء والأزمات في لبنان، تأجّل المعرض مرات عدة، على أن يسافر في جولة عالمية في عام 2022 تحت إشراف القيمة الفنية كاترين دافيد التي تعمل على أرشيف الفنان منذ أكثر من ثماني سنوات. وقد أشارت القيمة إلى أن المعرض يفتقد إلى بعض الأعمال المهمة التي تظهر موهبة عارف الريس الاستثنائية في مجال الرسم التخطيطي، كما في تطور ممارسته النحتية، لأسباب تتعلق بمساحة الغاليري المحدودة.

«عارف الريس: لوحات، رسومات، منحوتات من 1948 حتى 2005»: حتى 8 كانون الثاني (يناير) ـــ «غاليري صفير زملر» (الكرنتينا) ــ للاستعلام: 01/566550