مرّت سنوات عدّة، وغالباً ما يُنسى الراحلون كما لو أنّهم لم يكونوا بيننا يوماً. هي صيغة الحياة وصيرورتها التي تقتضي تخطّي الأمس، لاستقبال الغد. لكنّ الإنسان يقارعُ حلقة الفناء التي تلفّه في النهاية، من خلال باكورة عطاءاتٍ وآثارٍ يتركها في نفوس اللاحقين. فلا يُنسى، ولا ترحل ذكراه.جورج جرداق (1933 - 2014)، استحقّ منا كل تقدير في حياته، ويستحقّ اليوم أكثر، لما تركه من إرث أدبيّ تاريخيّ يزخر بالعشق والمحبة والإخلاص. فهو كان الباحث عن الإنسانية خارج حدود الدين والمذهب والطائفة. لقد عثر جورج على الإنسانية في قلبِ عليّ بن أبي طالب (ع). ومكثَ هناك يحاول صياغةَ خلجاته وأحاسيسه على شكل قصيدةٍ ونصٍّ أدبي.
هو جورج جرداق الأديب اللبناني المسيحي، الكاتب، الشاعر، الكاتب المسرحي، والمبدع المعروف الذي قضى في بيروت في غروب عاشوراء عام 2014 عن عمرٍ يناهز 83 عاماً.
عرفه الإيرانيون وشيعة العالم قاطبةً ومسلموه ومسيحيوه. لقد استحقّ عن حقّ لقب «عاشق الإمام علي». كان لكتابه الذي ألّفه في 5 أجزاء «الإمام علي صوت العدالة الإنسانية»، أثره العلمي والأدبي الخالد. وقد طُبع منذ أكثر من نصف قرن، وبيع منه حتى اليوم أكثر من مليوني طبعة في سائر أنحاء العالم.
«علي وحقوق الإنسان»، «بين عليّ والثورة الفرنسية»، «عليّ وسقراط»، «علي وزمانه»، «علي والقومية العربية»، وأخيراً ملحق هذه المجموعة باسم «روائع نهج البلاغة»، هي عناوين المجلدات الخمسة لهذا الكتاب المميز والفريد للمبدع الموالي لشخصية مولى الموحّدين وسيد المتقين علي بن أبي طالب؛ هذه الشخصية الفوق-إنسانية المتعالية.
في منتصف تسعينيات القرن الماضي، وضمن مهمتي الثقافية في لبنان، كانت لي معه زياراتٌ وفعاليات. كان الكتاب ومكتبته الشخصية يشغلان الحيّز الأكبر من تفكيره. كان يعيش وحيداً، وكان الكتاب أنيسه الوحيد ورفيقه الذي يحتل كل أركان البيت والمكتب وحياته كلها، إذ كان من الصعب إيجاد مكانٍ للجلوس في غرفته. لذا، فإنّ على الزائر أن يزيح الكتب من هنا وهناك ليفسح مجالاً، ولو ضيقاً، للجلوس في صحبة هذا المفكر الكبير.
في منتصف التسعينيات، ارتضى أخيراً السفر إلى إيران لكي يلتقي الإيرانيين الذين كانوا يعرفونه منذ سنواتٍ طويلة، إلا أنه وافق على هذه الدعوة على مضض، إذ إنه حتى ذلك الحين، لم يكن قد سافر بالطائرة أبداً، وكانت لديه مخاوف من السفر بهذه الوسيلة الجوية.
لهذا السبب، فقد فضّل اقتراحنا الآخر بالسفر عبر البر. وهكذا دخل البلاد بعد طيّ مسافةٍ طويلةٍ من لبنان إلى إيران، وبعد عبور مدنٍ مختلفة، من بيروت وحلب وعدة مدنٍ تركية، ليتمكن أخيراً من أن يكون حاضراً بين محبيه في مدينة قم الإيرانية.
لقد كان لتلك الرحلة أثرٌ عاطفي كبير في نفسه، وكان مذهولاً أمام هذا العدد من المحبّين. وبعد أيامٍ من اللقاءات والحوارات مع علمائنا ومفكرينا، عاد إلى بلاده، قاطعاً تلك المسافة الطويلة نفسها بكلّ ما فيها من المخاطرة، حاملاً معه خواطر جميلةً لا توصف، إلا أن ضيفنا واجه مشكلةً من نوعٍ آخر كذلك في هذه الرحلة، فهو لم يُقبل على تذوق وجبتنا المفضّلة، نحن الإيرانيّين، أعني «شلو کباب» أبداً!
لقد كان نباتياً، ولطالما طرح هذا السؤال على الآخرين قائلاً: «ما ذنب الحيوانات لتكون لنا نحن الناس قرباناً وأضحية؟» (طبعاً لم يكن قد شهد بعد في ذلك الحين ظاهرة ذبح البشر المريعة). لقد كانت رؤيته هذه نتيجة إحساسه اللطيف وعاطفته الإنسانية.
مرةً أخرى، شاءت الأقدار أن يزور إيران، ملبياً دعوة السيد البابطين، الأديب الكويتي ورئيس «مؤسسة البابطين للإبداعات الأدبية»، بقصد المشاركة في «مؤتمر شعر سعدي الشيرازي الدولي» الكبير. وهناك، كان جرداق نجم الاحتفال. وقد نلت شرف لقائه ومرافقته في طهران وشيراز. كانت المرة الأولى التي يزور فيها مرقد الشاعرین العملاقین الشيخ الأجلّ سعدي ولسان الغيب حافظ الشيرازي، إذ وقف مبهوراً أمام حضرتيهما.
لم تنفكّ مكتبته الخاصة تشغل تفكيره وحديثه طوال الطريق، حتى إنني سمعت أنّها بقيت همّه الأكبر حتى آخر لحظات حياته! قبل وفاته بشهرٍ واحد، أعلنت «مؤسسة البابطين للإبداعات الأدبية» عن فوزه بجائزة الخلق والإبداع في الشعر والأدب، قيمتها 50 ألف دولار، لكن الأطباء كانوا قد منعوه من السفر.
أن يصبح كاتبٌ وشاعرٌ وفنانٌ مسيحيٌ عاشقاً للإمام علي بهذه الطريقة، فذلك يذكّرنا قبل أيّ شيءٍ بحقيقةٍ ساطعة؛ أنّ علياً بجاذبيته المتفردة هو مظهر وحدة الأديان ومحورها.
وكما يقول جرداق:
«يا أيّها العالم، ماذا سيحدث لو جمعت كلّ قواك وقدراتك، وأعطيت الناس في كلّ زمان عليّاً بعقله وقلبه ولسانه وذي الفقاره؟!»
أجل! إن حبّ علي هو حبٌّ للخير كله.. وللجمال كله! فكيف لا يقعُ بحبّه باحثٌ عن نور الإنسانية في ظلمات الزمان!
سلامٌ على روحِ جورج جرداق...
* المستشار الثقافي الإيراني في لبنان