انضمّت رواية «ديستوبيا 13» (دار أبجديات للطباعة والنشر ـــ تونس) أخيراً إلى المكتبة العربية، وتحديداً إلى أدب المدينة الفاسدة أو أدب النهاية كما يشير عنوانها. اللافت أنّه على رغم أنّها تعتبر الباكورة الروائية للصحافي والسيناريست والمخرج التونسي محمد بوكوم، إلا أنّها تصدّرت مبيعات الكتب على موقع «أمازون» العالمي للتسويق الإلكتروني.نظراً إلى اختصاصه الصحافي، اعتمد بوكوم في الرواية أسلوب القصص القصيرة، حيث كل واحدة تنفصل عن الأخرى وتحمل عنواناً مستقلاً، قبل أن تتداخل وتتشابك في ما بينها. يضبط الراوي العليم إيقاع مسارها السردي، فيرتّب القصص ويبعثرها بين ثنايا أخرى حتى تجتمع في فكرة أدب المدينة الفاسدة. يعقد الحبكة في كل مرة وهو يوزّع الأدوار وسمات الشخصيات، ويراوح بين الأزمنة والأمكنة. اللافت في «ديستوبيا 13» أن منطلقها مكان واحد هو الحي الذي يقطن فيه «وليد»، الشخصية الرئيسية، وأحياناً ناقل تفاصيل القصص، يجمع كلّ الشخصيات على خشبة واحدة.
يشكّل الحوار عماد الأساليب الجمالية المعتمدة في الرواية، إذ أدّى دوراً رئيساً في نقل الأحداث وجعل القارئ يستمع إلى الشخصيات، رغم الوساطة السردية للراوي بين الفينة والأخرى، إذ إنّه جعل كل شخصية تبوح بما يتوافق مع مستواها الثقافي والاجتماعي.
وكي يؤدي الحوار وظيفته، فقد أتى قصيراً ومتواتراً، داخلياً حيناً، وخارجياً أحياناً، يقطعه السرد والوصف الحاضر بقوة كعنصر من العناصر المهمة في تطوير الأحداث، ونقل حالات الشخصيات النفسية. لم تخلُ الرواية أيضاً من الانفلاتات «الفانتازية» كتقنية سردية لتجاوز الواقع إلى اللاواقع، والمنطق إلى اللامنطق، حيث تكسر في كل مرة ذاك البؤس والدراما المحيطة بالشخصية، مثلما نرى في قصة عبد الحميد وحبيبته، أو الحوار بين «تورو» بائع الماريجوانا و«المعوج» الذي صار داعيةً لـ «الجهاد». كل هذه الشطحات الروائية تمنح الأحداث طرافةً تجعل القارئ يحلّق بخياله معها.
ولأن الديستوبيا تشكّل العمود الفقري للرواية، لم يقطع الكاتب مع أبجديات هذا الجنس الأدبي الذي ضمّ روايات أساسيّة في هذا المجال، على غرار «الرجل الراكض» لستيفن كينغ، أو «مزرعة الحيوان» للكاتب والروائي جورج أورويل التي نشرها في أعقاب الحرب العالمية الثانية. هذه الرواية تحديداً، تعدّ ملهمة بوكوم، وجورج أورويل هو صاحب مقولة «لن يثوروا حتى يعوا ولن يعوا حتى يثوروا». جملة تلخّص تقريباً الصفحات الأخيرة في «ديستوبيا 13» حيث قلّة الوعي الجمعي الذي يتخذ من الأمور ظاهرها.
في روايته، صوّر محمد بوكوم فترة صعبة تمتد مما قبل الثورة التونسية لغاية اندلاعها، من خلال نسق السرد التصاعدي وتطوّر الشخصيات. وضع بوكوم الرواية في فترة عسيرة على المستوى السياسي والاجتماعي وحتى الذاتي. فترة ما يُسمى بالانتقال الديمقراطي وتفشّي الفساد وأزمة كورونا والموت والخراب اليومي والأزمة الاقتصادية وغيرها من الأزمات الذاتية على غرار البطالة والاكتئاب واليأس من غد أفضل لتونس وأبنائها. اعتماد «ألعاب الجوع» والدين والصراعات الهُوياتية أو الترهيب الاجتماعي والاقتصادي، أساليب يتقنها النظام السياسي الفاسد بسلطاته وأجهزته حتى يحكم السيطرة على الشعب من خلال الحفاظ على حالة مستمرة من الخوف من شبح ما.
ورغم اختلاف السياقات الزمكانية بين روايات الديستوبيا، فإن «بوكوم» طرح تقريباً مواضيع مطروقة من قبل في كتابات أخرى منها الفقر والقهر وسطوة رأس المال والقمع البوليسي. قضايا أدّت في نهاية المطاف إلى «الحرقة» (الهجرة غير النظامية) والتطرف والفقر والتهميش والإجرام ووأد أحلام جيل الشباب.
بين المخدّرات والسلفية ضاع الشباب التونسي في الرواية


يُغرق الكاتب الشخصيات في المأساة، ليصف كيف أنّ الفقر والظلم وانعدام المساواة الاجتماعية، إلى جانب الفقر الثقافي المنتشر في المجتمع التونسي على عكس ما تروّج له وسائل الإعلام، أفرزت ظواهر مثل بيع الماريجوانا والسرقة والتعصّب الديني، بحثاً عن منفذ آخر أو الهجرة نحو الموت. ترجمت ذلك الشخصية الرئيسية في تعارفها الأول مع القارئ، حين أطلّت من بين ثنايا مقبرة. وقبل ذلك، يكتب بوكوم في الإهداء: «لا يجرؤ على إهداء أحدهم كل هذا البؤس»، ثم ينتقل ليصوّر صراع الأجيال والقمع الأُسري في المجتمعات العربية والانكسارات في مواجهة السلطة بكلّ تجلياتها منذ حركات الاستقلال حتى اللحظة.
يتقاطع نمط تفكير والد الشخصية الرئيسة «وليد» مع والد «أروى» الثائرة على النُّظم من خلال رغبة كليهما في تحديد مستقبل أولاده. أما أمّ «وليد»، فترمز إلى السلطة الأخلاقية والتطبيع مع الخرافات، فهي لم تحزن لبطالة ولدها وعجزه بقدر ما أزعجها أن يسكر في المقابر و«ينتهك» حرمة الموت والموتى. يتواصل عرض المنظومة الأخلاقية المهترئة والفاسدة وسطوة رأس المال حين يرفض أحد كبار الفلاحين تزويج ابنته عاملاً فقيراً، فتهرب هي من منزل أبويها بسبب غشاء بكارة يمثل رمزاً للشرف والعرض. الأمر نفسه ينطبق على قصة نادلة في حانة تكون عادة من منطقة الشمال الغربي في تونس التي تعاني التهميش بكل تجلياته.
ومن الشخصيات الجاذبة للقارئ شخصية «تورو» التي تذكر أن تونس بعد عام 2011، صارت مرتعاً لبائعي المواد المخدّرة لزبائن من مختلف الشرائح العمرية. شخصية تشبه كثيرين في تونس نجدها خصوصاً في الأحياء الشعبية والفقيرة. تورو يبيع الماريجوانا كأنما في إحدى مقاطعات كولومبيا، وقد شبّهه الكاتب ببابلو اسكوبار قبل أن ينتقل إلى تجارة الأسلحة.
وعلى درجة أخرى من التناقض، اتّجه جزء من الشباب نحو «الجهاد» والسلفية والتطرف بأشكاله والسفر نحو سوريا كجنّة موعودة. وهنا أيضاً تكون الطرافة، إذ تصوّر الرواية أطوار التحوّل من «فلان» إلى «أبي فلان»، وقميص يعضّ من كانوا ندماءه في احتساء الخمر. وَصف نظرية تطوّر المتطرف أو الإرهابي يُضفي طرافة على القصص المذكورة رغم بؤسها ومأساويّتها في أحيان كثيرة.
ومن القصص أيضاً قصة أمين العشريني الذي تركه والده صغيراً، وهاجر في قارب صيد إلى إيطاليا. لم يعد منذ ذاك الحين. هو أيضاً عينة من عائلات فقدت سندها أو فقدت أحد أفرادها من دون أن تدرك مصيره. وها هي قوارب الموت لا تزال تقلّ الناس كل يوم نحو إيطاليا، ليكون مستقبلهم مجهولاً أو معلوماً حين تعود الجثث إلى الأوطان. أما الضابط «عز الدين» وقصة خيانة حبيبته له مع ضابط أعلى رتبةً منه، فيمثل كذلك عينة عن السقوط الأخلاقي الذي يرتبط بالسقوط الاقتصادي والاجتماعي.
يعود السرد في حركة دائرية إلى الشخصية الرئيسية. نجد «وليد» في دهاليز التحقيق البوليسي متَّهماً بالشيوعية. في الحقيقة إنّ هذه الشخصية هي العين السحرية التي يطل من خلالها الراوي على قصص كثيرة ليعود في كل مرة إلى عالم الشخصيات الرئيسية التي تعاني هي أيضاً مجموعةً من الصراعات الديستوبية. ويعود بالقارئ إلى الأماكن نفسها كالمقبرة والحي كما إلى الظروف نفسها التي لم تتغيّر مع اندلاع الثورة بل على العكس: لقد تضاعف الفساد. وهنا يتضح أكثر دافع اختيار الرقم «13» (رقم شؤم في بعض الثقافات) في العنوان وتكرار كلمات من قبيل البؤس والفقر والظلم.
كل شخصية في «ديستوبيا 13» كانت محاولة للإفلات من المنظومة الأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية السائدة بما تحمله من قمع للفرد واختياراته الحرة. لكنها في مسار هروبها، تتعثّر دوماً بما تحمله في داخلها من تلك المنظومة، ما يجعلها في النهاية تذعن لخيارات معينة وتنتهي بأن تبتلعها «الماكينة» في ظنها أنّها في جادة الخلاص والنجاة.
إخفاقات وانكسارات الشعوب تجعل أدب الديستوبيا يعود إلى الواجهة، شأنه في ذلك شأن أدب المقاومة، فأدب المدينة الفاسدة يشكّل أحد التعبيرات الحقيقية عن الماَسي التي يعيشها العربي اليوم، قبل أن يُزف إليه «الربيع العربي» وبعده، حتى صار الإغراق في التشاؤم وتصوير البؤس السمة الأساسية لكتابات ما بعد 2011.